الجمعة 19 أبريل 2024| آخر تحديث 7:50 11/17



الاحتفال بالمولد النبوي، سؤال المقصد الذي غشّاه الجدل؟

الاحتفال بالمولد النبوي، سؤال المقصد الذي غشّاه الجدل؟

ولد الهدى فالكائنات ضياء……… وفم الزمان تبسم وثناء

إن صار فم الزمان كله مبتسما ومادحا لك يا رسول الله، فلم يحجم فمي عن مدحك وحسن ذكرك والصلاة عليك؟ لا والله فلن أرض أن أكون بخيلا ! فقد قلت محذرا ” البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي” سنن الترمذي
اعتادت الأمة الإسلامية منذ قرون أن تحتفي بميلاد من وصفه الله بقوله ” وإنك لعلى خلق عظيم” وحمل هذا المشعل: الزوايا والمدارس العلمية، ومجالس العلماء والأعيان والأمراء..وهي سنة حميدة تحقق مقاصد نبيلة كما سيأتي تقريرها ومساءلتها.. وحسبي أن أشير إجمالا : أن من يحتفل يستند للأصول العامة للشريعة الإسلامية، وأعلاها: جواز الفرح والاجتماع على الخير، والتحدث بنعم الله وفضله ” وذكرهم بأيام الله” إبراهيم:5. ” وأما بنعمة ربك فحدث” الضحى:11
 وأن ” الوسيلة إلى الخير خير” ولا أحد منهم يقول هو سنة أو فرض ليصح الرد عليه بالابتداع.
كما تكفل الباحث المجد الأستاذ حسين أكروم بالحفر في الوثائق واستنطاق التاريخ فأصدر كتاب الغني المغني:
” أصول الاحتفال بالمولد النبوي في المغرب” متحدثا عن السياق التاريخي، مع مناقشة آراء الجانبين..
وفي المقابل هناك من ينكر هذا الاحتفال محاججا ب ” لم تعهده القرون الخيّرة”. وهل نحن أولى محبة منهم بالرسول ﷺ حين تركوه.. ؟ وهذا كلام مؤسس على دعوى مفادها ” كل ما لم يفعله الرسول ﷺ والصحابة رضي الله عنهم  فهو من التروك التي لا يجوز فعلها” وهذه قضية أصولية لا يوافقون عليها، فالتروك تعتريها الأحكام الخمسة حسب طبيعتها، ومقاصدها.. فقد تكون من العفو الذي سكت عنه الشرع ويتحدد حكمه بما يترتب عنه من مقصد، فالوسيلة للخير خير، وللشر شر.. وهذه قضية علمية أصولية عميقة نتأسف أن نجد من لا زاد له من التخصص في الفقه والأصول يتهجم ويصادر.. ويردد شبهات كأنها وحي أو قطعيات وما هي من العلم في شيء. وأحسن من درس “قضية الترك” الفقيه المحدّث عبد الله بن الصديق الغمري في رسالة المختصرة: حسن التفهم والدرك، لمسألة الترك” وتعمق في الموضوع أكثر الأستاذ أحمد كافي في كتابه:   ” دليل الترك بين المحدثين والأصوليين”
أما مقولة: الاحتفال والفرح بالرسول ﷺ ومولده يحصل بإحياء سنته لقول ربنا:” قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل اطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكفرين” آل عمران:35 فلا يدعي المحتفلون أن هذا يغنيهم عن إحياء السنن والعمل بها، وعليه فهي مقولة تصادر الرأي، وتصير من المزايدات التي تشوش الحوار ولا تثريه.
هذه مجرد إشارات لا أقصد بها الانتصار لطرف دون آخر، إنما مهدت بها للموضوع ولخصت التصور السائد تجاهه، حتى نكون على بينة منه ما أمكن
وأرجع لمسائلة المقاصد الثاوية في الاحتفاء: – فما هي هذه المقاصد؟
– وهل حرص المحتفلون على تحقق هذه المقاصد ورصدها في سلوكنا؟
من المقاصد النبيلة للاحتفاء:
1- التعريف بسيرة الرسول ﷺ : وقد اعتادت مجالس العلم والذكر العطرة أن تتداول سرد كتب السيرة خاصة:
“الشمائل المحمدية. للمحدث أبو عيسى محمد الترمذي ت279” و “الشفاء بتعريف حقوق المصطفى. للقاضي عياض 544”
2- سرد ما نسج من قصائد في مدح الرسول ﷺ: وإن في هذا الفعل مقصدا تربويا ومعرفيا وخلقيا أصيلا لا نلتفت له
مع الأسف، فاستثمار الشعر وتوجيهه لبث القيم ميزة للمغاربة، بل إن الشعر الأمازيغي خدم هذا البعد كذلك، وأشير لقصيدة أمازيغية متداولة بعنوان ” محمد أبولانوار الصلاة عليك الرسول ﷺ.” وترجمته: محمد يا صاحب الأنوار.. صلى عليك الله يا رسول”   وأترحم على الفقيه امحمد العثماني الذي تفطن لهذا وذكره في كتابه ” ألواح جزولة..”
كما أنه فرصة لتنمية مهارة الحفظ لدى النشئ والطلبة، وتزويدهم بقاموس لغوي غزير، وتربية ملكة الشعر لديهم، تذوقا، وسردا، ونسجا، ونقدا. ورفع مستواهم في اللغة واللسان العربي معا. وبهذا نفهم تمكن المغاربة – بما فيهم الأمازيغ – من اللسان العربي، ونسج الشعر حتى صارت لنا مدرسة استحقت أن تضم معالمهما في الكتب التالية: ” النبوغ المغربي لعبد الله كنون” و ” المعسول. وسوس العالمة لمحمد المختار السوسي” رحمهم الله جميعا. وما زالت المدارس العتيقة رافعة لهذا اللواء نرجوا أن تعي به وتحافظ عليه.. وأغرب ما نعانيه أن نغض الطرف عن كل هذا ونسقط البدعة على نسق علمي هادف، يعد إقحام مقولة البدعة إليه بدعة، بنى لنا توجها علميا أصيلا، هو “المدرسة المغاربية”، فحافظ على اللسان العربي الذي خاطبنا به ربنا.. ولتعض على بنانك حين تجد من يتزعم هذا هم من ينتمي للاسلام ويدافع عن اللغة العربية ! فبم سنحافظ عليها سيدي؟؟
ومن القصائد المتداولة:
أ- “البردة والهمزية لأبي عبد الله البوصيري ت 696” ومما يؤكد المقصد العلمي الذي ذكرته إقبال كثير من العلماء على شرحها أذكر منهم: “الأصولي المحدث محمد الزركشي 794″ و ” شارح البخاري أحمد القسطلاني 923 ” و ” الفقيه المحدث زكرياء الأنصاري 926″ . ” الأنوار القدسية في شرح الهمزية لابن عجيبة الصوفي المغربي ت1224 “وغيرهم رحمهم الله.
ب- قصيدة بانت سعاد التي أنشدها الصحابي كعب بن زهير رضي الله عنه أمام الرسول فأهداه بردته، منها:
وقد أتيت رسول الله معتذرا…….. والعذر عند رسول الله مقبول
وقد استثمرها العلماء للدرس الأدبي أيضا، وشرحا اللغوي: ابن هشام ت761.
 ومنها استمدت بردة البصيري واحمد شوقي، محمد الحلوي هذا الإسم تبركا وتضمينا/ تناصا.
ج- قصيدة: ” برح الخفاء وصرح الوجد..” للفقيه المجاهد الشاعر الطاهر بن محمد الإفراني التمنارتي رحمه الله ت1374.  – وهو من شيوخ المختار السوسي-  وله قصائد أخرى في مدح الرسول ﷺ وشعره نسج عربي أصيل يضاهي ما نسج في الأندلس إبان عمرانها الإسلامي.
د- قصيدة مسرح الأفكار بسيرة النبي المختار، للفقيه المؤلف المجاهد ماء العينين بن العتيك ت 1376 رحمه الله. وقد تصدر لتقريبها بشرح أدبي علمي بديع الأستاذ جعفر أبوالقاسم،  سماه: متعة الأنظار في شرح منظومة مسرح الأفكار. وقد طبع أخيرا في مجلدين
ويلاحظ أن قصيدتي البوصيري قربها علماء ذووا نزعات وتخصصات علمية مختلفة، فيهم الأصوليون، والفقهاء، والمحدثون، والبلاغيون اللغويون..
وأكتفي بهذا لأخلص للسؤال الثاني: هل حرص المحتفلون على تحقق هذه المقاصد ورصدها في سلوكنا؟
المقاصد قيم، وقيمة القيم في العمل بها، وتأثيرها في النفوس. وكثير من المناسبات – بما فيها هذه – أسسها علماء مصلحون، وزاوجوا فيها بين خصوصية الزمن والمكان النسبيين، مع عمومية القيم والمبادئ الشرعية القطعية المطلقة، بم يحقق التطبيق الفقهي السليم ل مبدأ ” عالمية الإسلام ” وهكذا فلكل قطر خصوصيته ونموذجه في تنزيل الأحكام والقيم الشرعية، وتوجيه الفعل الحضاري، والسيرورة التاريخية لها.
لكن هذه القيم التي صيغت في شكل مشروع كالاحتفال بالمولد النبوي، – وكذا قراءة الحزب الراتب، وما نطلق عليه بسوس ” المعروف” وهو اجتماع على إطعام الطعام لله، وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح ذات البين..” –  إن لم تواكبها عملية الرصد والنقد والمسائلة كيلا تنحرف عن أهدافها، سيخفت نورها، ويخبو وهجها، فتصير رمادا بعد أن كانت مصباحا منيرا..  وقد بسط مالك بن نبي هذا المعيار المنهجي في كتابيه ” مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” و ” شروط النهضة” وذلك في سياق حديثه عن: جدل الفكرة والشئ،
ولي قناعة مفادها: طغت على مناسباتنا نزعة تغليب الأشخاص على الأفكار، حسب تعبير مالك بن نبي، فولدت عقدا سيئة مميتة. كما أن الخلط بين الوسيلة والمقصد نتج عنه من يستمسك بالشكل دون مراعاة تغير الظروف، ولا الانتباه لمدى تحقق المقصد، أضف لها أن نزعة الدفاع والجدل حجبت بريق المقاصد وأنست تنميتها. وبيان  ذلك كما يلي:
– أولا الخلط بين الوسيلة والمقصد: الوسيلة هي الطريقة والصيغة المتخذة لبلوغ المقصد والغاية، وهو مثل أعلى مطلق.  وما هو وسيلة أمس قد لا يصلح وسيلة لذلك الهدف اليوم أو غدا لأنه نسبي قابل للتغير.. وما يستوجب الحرص عليه هو المقصد لا الوسيلة، وقد صاغ علماء المقاصد أصلا قطعيا هو ” المكمّل/ الوسيلة/ الوصف/ التحسيني/ المستحب: إذا عاد على أصله بالإبطال سقط اعتباره”
وعليه نسأل: هل حرص المحتفلون على تحقق المقاصد؟ أم انقلب سلوكهم طقوسا وعادة لا غير؟ أو: هل السبب – المكمل، وهو الاحتفال..- يخدم المقاصد التي أنشئ لها؟ أو يعطلها؟
سأكتفي بملاحظات، وأترك للقارئ اختيار ما يراه صوابا: لا أفهم ما الثمرة المرجوة من التغني بقصائد دون الحرص على فهمها وإفهامها، أو تصحيح أخطاء سردها وهو أضعف الإيمان ! ولا أفهم كيف يجتمع قوم لقصد مدح الرسول ﷺ وتحبيبه للنشئ وتعريفهم به، ويكون كل ما قاموا به هو سرد الأشعار مع العشاء، ولم يكلفوا أنفسهم تقريب سيرته إليهم، ولا تنشيطهم بمسابقات في سيرته، ولا منحهم فرصة تجويد آيات مع جوائز تحبب إليهم نوادي العلم، وغيرها من الأنشطة العلمية الثرية ! ما أكثر من ينتقد الأنشطة الفنية.. لكن ما أقل من يقدم بديلا ويشتغل في تفعيله.. !
– ثانيا طغيان نزعة الدفاع: وقع الفكر الإسلامي في القرون الأخيرة في خندق المدافع، سواء ضد التغريب الغربي، أو التوجه الموصوف ب ” السلفي” فاشتغلنا بالجدل عوض البناء، ووقعنا في خلل كبير ما جعل الحركة الإسلامية وبعض الفقهاء والمفكرين يدعون لإعادة بناء المنهج، وضمنه فقه الأولويات.. ونزعة الدفاع في موضوعنا أن المحتفلين يسلمون بأغلب أو كل المقاصد التي ذكرت، لكنك تجدهم ينحرفون عنها إلى ممارسة الرد بلغة – قاسية كالتفسيق والتقويل.. – تخالف ما اجتمعوا عليه وهو التأسي بالرسول، والتناقض نفسه وقع فيه المنكرون لأنهم يبدعون ويعاندون وغيرها من السلوكات الدالة على ضيق الصدر عن الأخوة والحوار بالتي هي أحسن..
كما أن نزعة الجدل حجبت عنهم: ممارسة النقد الذاتي، وتصحيح المسار لإثراء المقاصد، فعضوا على الطريقة/ القشور وإن نتج عنها ضياع المقصد/ اللباب. كما أن كل خطاب ناقد يصنفونه في خانة المحارب الذي يروم نقض ما بناه أجدادنا..
وما نرجوه أن يتصدى ذووا الفكر المتزن لإصلاح مسيرة هذه المناسبات التي نعتز بها، باعتبارها جزءا من الخصوصية المغاربية، وأن يواكبوا بها التحولات القيمية والحضارية.
حسن اهضار






تعليقات

  • مقال من أجمل ما كتب في هذا الموضوع ومن أجمل ما قرأت،يستحق النشر بشكل أوسع من هذا بسب ما ضمنه صاحبه من أهداف سامية ومثل عالية وحكم بالغة ودقة في السرد وبلاغة في الوصف ودراسة للواقع وفهم له
    وهو رغم حجمه القصيرإلا أنه جامع ومانع،زاوج فيه الكاتب بين رأي المخالفين والمقرين مع بيان نقيض كل واحد منهم،وبهذا كله لم يغفل الجانب المقاصدي الأساسي الذي ينبغي أن يفهم تجاه هذا الطرح،وأضاف له فقه الواقع والأهداف التي يرجى تحقيقها وراء هذا القصد كما ذم الذين ينكرون على بعضهم بعضا بحجج دامغة وأساليب حجاجية باهرة،فاستحق مقاله بكل هذه الإعتبارات ميزة تجعله مرجعا يعتمد عليه دارسو هذا الموضوع

  • عمل رائع سيدي حسن، مقال علمي مرتب و دسم ممتلئ بالافكار المنهجية والمراجع العلمية والتاريخية. نجحت في طرح التساؤلات ومناقشتها بطريقة علمية منهجية. لكن المخالف لن يتجاوز في النقاش كلمة : كل مالم يفعله الرسول والصحابة فهو بدعة منكرة! ضاربا بالقواعد الاصولية والمقاصدية عرض الحائط. موفق جدا استاذي العزيز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.