الجمعة 3 مايو 2024| آخر تحديث 8:38 04/23



واقع العمل الجمعوي بين الألم و الأمل

واقع العمل الجمعوي بين الألم و الأمل

لاَمِرْيَةَ في أن العمل الجمعوي- بما هو فعل تطوعي يهدف إلى نفع الفرد و الجماعة دون تمييز عرقي أو جنسي أوإيديولوجي….-أضحى دعامة أساسية للتنمية البشرية و ركيزة لا غنى عنها لمسايرة ركب التنمية عل كافة الأصعدة و المستويات.

لكن واقع حال أغلب جمعيات المجتمع المدني،يفرض علينا طرح جملة من التساؤلات لعل أهمها:

           – أية جمعية؟ لأي مجتمع ؟

           – من هو الفاعل الجمعوي ” الحقيقي ” ؟.

           – أي مفهوم للتنمية من المنظور الجمعوي؟.

           – أية مقاربات تصلح لعقلنة الفعل الجمعوي و ترشيده؟  

 

لاغرو في أن يشمر المرء عن ساعديه،ويضحي بجزء يسير من وقته وماله،من أجل خدمة بلدته أو مدينته حيث مسقط رأسه ،كعربون محبة ووفاء لأرض قضى بها أيام الطفولة البريئة بحلوها و مُرِهَا….ولن يتأتى له ذلك على أرض الوقع إلا بالانخراط الفعلي في جمعيات المجتمع المدني كآليات قانونية تقطع مع زمن التسيير العشوائي لشؤون الناس،وتزيح الفئة الوصولية التي تقضي مآربها باسم الساكنة …

لقد بات من حكم المؤكد أن يتغير الوضع” التسييري ” لشؤون المجتمع المدني ،مع هذه الطفرة النوعية التي يعرفها عالم التكنولوجيا… فلم يعد خافٍ على أحد الإطار القانوني الذي يمكن للجمعيات الاشتغال على ضوئه،بل و الأكثر من ذلك،أن أي نشاط جمعوي يمكن أن يصل لشريحة واسعة من المجتمع”الواسع” ولو فرق بينكما الزمان و المكان…فما إن ينشر الخبرحتى يتلقاه من يبعد عنك آلاف الكيلومترات في بضع ثوان….لذلك وجب على الفاعل الجمعوي الابتعاد عن ما من شأنه أن يعرقل السير العادي للأنشطة الجمعوية، لأنه محط مراقبة ” قانونية ” ممن أوكلوه مهمة القيام بتسيير أمورهم ( خاصة تلك الجمعيات التي تصرف أموالا مهمة).

إن الفعل الجمعوي،فعل مؤسسي وليس فعلا وصوليا انتهازيا يسعى القائمون به لتحقيق مصالح ذاتية أو حزبية سياسوية محضة، لاتستحضر المصلحة العليا للمجتمع،و إن تم استحضارها تكون بنية مبيتة و لحاجة في نفس يعقوب،بل و الأمَرمن ذلك أن يتم تحويل بعض الجمعيات إلى مؤسسات للاسترزاق وهذا يتعارض مع المبادئ الأخلاقية قبل القانونية.وهذا حكم لا نشجع تعميمه لأن هناك فاعلين”حقيقيين” يؤمنون بالعمل الجمعوي كفعل واع نابع من الواقع،يستقرئه ويتعاطى معه،ويسعى لخدمته وتغييره بما لايصطدم و هوية أهله،بل يدعمها و ينميها.

يتعلق الأمر إذن” بمنظومة” جمعوية واعية بأهدافها،تحكمها رؤية استراتيجية واضحة، مع الالتزام التام بالاستمرارية،وربط المسؤولية بالمحاسبة.آنذاك يمكننا الحديث عن         ” الديموقراطية الجمعوية”.

إن جمعيات المجتمع المدني – كجمعيات تنموية – معضلتها في رأيي،أنها تستثمر في الحجر قبل البشر، و هذه آفة تطرق إليها أحد أعمدة الفكر العربي الذي يدرس المستقبل،الدكتور المهدي المنجرة.

 

إن التنمية الجمعوية،ليست تقديم خدمات ظرفية أومناسباتية،كما أنها لاتعني العمل على خلق مشاريع ضخمة لتشغيل الشباب والنساء وعموم العاطلين لأن هذا يتطلب ميزانيات ضخمة،وهي من اختصاص أجهزة الدولة.

كما أن التنمية لاتعني القيام بأنشطة تتسم بالارتجال و ضيق الرؤية وضعف الارادة و سيطرة الأنا.لأن هذا من شأنه أن يحطم أحد أهم أسس العمل الجمعوي و المتمثل في مبدأ “الاستمرارية”.

 

إن التنمية الحقيقية هي التي تهتم بالإنسان الذي هو الثروة الحقيقية للأمم،و الأمرلايقتصر فقط على تنمية الموارد البشرية باعتبارهم آلات محورية في تنمية الإنتاج أو السلع “مادية كانت أو محسوسة”،ففي ذلك استلاب لماهية الإنسان و إحساس بدونيته و تقزيم لإنسانيته.

ففعل التنمية إذن،فعل تكريمي للإنسان كما أراده الله جل علاه بقوله:.

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا”.

وهنا يبرز الدور الحقيقي للفاعل الجمعوي من حيث استنهاض المجتمع للقيام بما يلزم لتحقيق فعل التنمية،وذلك باستثمار الطاقات المحلية و غبر المحلية و إعدادها للمشاركة في التنمية المحلية ،حتى تحس بفعل المشاركة الجمعوية عن قرب.وبمعنى أدق ” جمعية تخدم المجتمع و ليس مجتمعا يخدم الجمعية “.

 

لكن تبقى معيقات العمل الجمعوي قائمة ،وهي مرتبطة أساسا بالتصور العام للأنشطة الجمعوية – كأنشطة تطوعية – أضف إلى هذا،الصراعات الخفية بين طبقات المجتمع، وهي متجدرة عبر التاريخ ،و لا تتجاوزها إلا فئة محدودة محظوظة ممن نالت قسطا من العلم و التحصيل،هذا فضلا على الأساس المادي الدي تعانيه جل جمعيات المجتمع المدني و إن لم نقل كلها.فلا نجاح للأنشطة الجمعوية بدون دعم مادي،يوازي حجم تلك الأنشطة،باعتبار أن “المال قوام الأعمال”.

 

ولتجاوز هذه المعيقات، لا بد من عقلنة الفعل الجمعوي و ترشيده ،و لن يتأتى لنا ذلك إلا بمقاربته مقاربة إحسانية ، ترافعية و تشاركية.

فالمقاربة الإحسانية تتمثل في تقديم مساعدات للمحتاجين ” فعلا “، وذلك من شأنه ربط أواصر الألفة و الرحم و التكافل بين أفراد المجتمع باختلاف مشاربهم و مستواهم المعيشي.وهذا ما نجده كثيرا في الجمعيات الإحسانية التي تتولى مهمة تقديم معونات و مساعدات خاصة في المناسبات الدينية ( تنظيم عملية الافطار في رمضان-شراء و توزيع ملابس و أغطية في المناطق التي تعرف برودة ظقس شديدة و حيث الفقر المدقع-جمع تربعات لمريض قصد القيام بعملية جراحية تقتضي استئصال ورم أو زرع عضو….)كل هذا له وقع إيجابي على نفوس أفراد المجتمع،باعتبار أن الأعمال لله وحده.فما كان لله دام و اتصل ، و ما كان لغير الله انقطع و انفصل.

ثم المقاربة الترافعية ، و هي مرتبطة أساسا بمستوى الوعي القانوني لدى الفاعل الجمعوي،ويتجلى ذلك في الضغط بمختلف الوسائل و الاستراتيجيات على المؤسسات العمومية و الخصوصية و مختلف المتدخلين في الشأن العمومي ،من أجل القيام بالأدوار المنوطة بهم تجاه الإنسان المواطن،بما يكفل كرامته الآدمية و يحفظ حقوقه .و لعل مشكل تحديد الملك الغابوي الذي يؤرق مضجع انسان القرية مؤخرا، خير امتحان واضح لما يمكن أن تقوم به جمعيات المجتمع المدني من أجل الدفاع عن أملاك ناس البادية الغلابة الذين لا حول لهم و لا قوة ،سوى رفع أكف الضراعة إلى الباري جل علاه عسى أن يجود عليهم بقطرات مطر تقيهم برودة الجيب(كناية عن البطالة الشبه الدائمة بالقرية) و حرارة الأسعار الملتهبة.

وأخيرا المقاربة التشاركية،و قد يشاطرني البعض الرأي في كونها أحسن مقاربة يمكن اعتمادها لإيصال العمل الجمعوي إلى بر الأمان،بالرغم من أن كل هذه المقاربات متداخلة فيما بينها،بل الواحدة منها تكمل الأخرى.

فالمقاربة التشاركية قوامها العمل على تنسيق و توجيه جهود مختلف المتدخلين في الشأن التنموي بما يضمن مشاركة الجميع ،و دون التكتم على القرارات المتخذة أو التي سيتم اتخاذها من أجل ارساء نشاط جمعوي أو تحقيق مشروع طموح يتغيى الرأسمال البشري.

فلا يعقل بأي حال من الأحوال الإقرار باعتماد مقاربة تشاركية من قبل جمعية من الجمعيات،و أعضاؤها يكيلون بمكيالين، و ينفذون قرارات غيرتلك التي صادق عليها الشركاء،أو أن ينصاعوا لإملاءات خارجية تضرب في الصميم مبادئ النزاهة و الشفافية و المصداقية و روح العمل المتسم بالمسؤولية المرتبطة بالمحاسبة.

أكاد أجزم أن التحقيق الفعلي للمقاربة التشاركية في الشأن الجمعوي تتطلب عناصر أساسية أجملها في ما يلي:

~ وجود إدارة قوية ( أعضاء جمعويون) ذات رؤية واضحة ، تستشرف المستقبل بايجابياته و سلبياته.

~ علاقة تشاركية مستمرة مع أطر محترفة وطنية أو أجنبية ذات تكوين و خبرة.

~ استقرار مالي من شأنه أن يكون لبنة لاعتمادات و هبات مالية من أطراف خارجية.

~ التخصص في المهمة عملا بمبدإ تقسيم العمل، و هذا له وقع إيجابي على جميع الأطراف.فلا يعقل أن يتولى عضو أو اثنان المسؤولية و البقية تأكل ثمار عملها المضني بحجة أنها شريكة في العمل الجمعوي…

~ المحيط : الاعتراف بالعمل الجمعوي كقاطرة للتنمية المحلية مع التأكيد على ضرورة نشر ثقافة العمل الجمعوي،و الوعي بصفة الفاعل الجمعوي كمنخرط في التنمية و ليس معرقلا لها.

 

           إجمالا،يمكن القول أن التحدي العالمي و التحولات الكبرى التي فرضتها العولمة ،و المتمثلة أساسا في تحول السلطة من سلطة المال و القوة ،إلى سلطة المعرفة و أساليب إنتاجها، و من ثم صناعتها ، و ظهور التكنولوجيا الرقمية،أدى إلى اعتراف الدولة بحاجتها إلى المجتمع المدني وضرورة إشراكه في التنمية ،عن طريق تأسيس جمعيات شكلت النواة الأولى لتدبير قانوني لشؤون المجتمع من تلقاء نفسه.

إلا أن واقع بعض الجمعيات أليم، لكننا ما نزال متمسكين بأمل تغيير الوضع الحالي نحو الأفضل إذا كنا نؤمن فعلا بقول الله سبحانه و تعالى :                                             (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ). صدق الله مولانا العظيم.