الجمعة 3 مايو 2024| آخر تحديث 9:35 04/22



الوقاية خير من العلاج

tahiri

 لقد أصبحت هذه المقولة من ضمن الموارد المعرفية المهضومة،والمترسخة في صدر كل كبير وصغير،وما تفتأ تذكر بدايتها أو يوحي بها كلامك وأنت أمام تلاميذك أو طلابك ،إلا ويتلقاها هؤلاء بالتتمة كأنهم يريدون أن يقولوا لك :نعم ،ها نحن  حفظنا هذه،وماذا بعد؟ولئن كانت المقولة مهضومة كما ذُكر،فإنها من جهة أخرى مهضومة، قد لحقها الصَّغاروالذلة بتجاوزها وعدم العمل بمقتضاها، وليس عدم إعمال وظيفتها في الجانب الصحي هو المقصود،رغم أنه بدوره يشهد ما يشهد من الإخلال بقانونها،ما دامت في المجتمع علل وأمراض تنخر جسوم الشباب وعقولهم،خاصة لمـّا يتعلق الأمر مثلا بالخراب الذي يذره التدخين والمخدرات بأنواعها على صحة هؤلاء،وهم يعلمون أن الوقاية خير من العلاج،وإنما المقصود هو ما نتج عنه هذا السيل العرمرم من الجرائم التي ترتكب في حق الإنسانية،وما يقوض فيها بنيان حقوق الإنسان،وهذه الجرائم أصناف تتفاوت درجات خطورتها،إذ منها ما هو خطير ومنها ما هو أخطر،وربما سمعنا من ذلك ما لم نسمعه ونعهده من قبلُ في طيش الإنسانية،وما يجرفها إليه تيار التهور والبعد عن التعقل،والمجتمعُ وما تـُطلعنا به عنه المستجدات خير دليل على ما نقول، فقد بلغ السيل الزبا والربا على السواء،وصارت نواقيس الأضواء الحمراء التي تحظر التجاوزات في هذه الحدود تدق وتدق يوما بعد يوم،وكلما هب من رياح هذه الجرائم عاصفة، تزعزعت لها الضمائر وارتجت السرائر،فما تكاد تهدأ حتى تهب بعدها ريح أقوى، تعصف بكل شيء، فهي لا تبقي ولا تذر،وما بال الإنسانية لا تنصت بحاسة الإيمان إلى ما يقع في عرش الرحمان من اهتزاز وارتجاج، يوشك بسبب ما يتصدع له أن يقع، لكن الله يسلّم، فيمهل ولا يهمل…

أما الحقيقة المرة التي لا يستسيغ أحد مذاقها،فهي أن في دواليب المجتمع ومؤسساته شرخا وصدعا كبيرا،وكلٌّ على مركبه يصارع الموج في غير دعوة إلى التعاضد من أجل درء شرور الأنفس التي صارت تخرج براكينها تباعا،وصارت معها المعاناة التي تخلفها في الأنفس أشد وقعا مما قد أصابها،ذلك أن الأساس المهمل هو التربية وهو الوقاية،ولعل هذا الدور الأولي الدقيق والخطير لا تضطلع به مدارس البلاد ولو اجتمعت،ليس لكون منطومتها القِـيَمية التي تتبنى ممارستها على الناشئة تعاني بدورها من تناقضات صارخة،وليس بين صفوف المنفذين والممارسين لهذا الفعل التربوي فحسب، وإنما أيضا بين صفوف المنظرين،فصارت التربية بين هؤلاء وأولئك أشبه ما تكون بكرة تقذف هناك وهنالك،وصار معها كل فرد يغني على ليلاه،بل الشرخ أخطرأكثر من اللازم،وذلك لقيام التنافر والتضارب الحاصل بين التربية التي تمارسها المدارس على الناشئة وتلك التي تمارسها وسائل الإعلام مثلا،وسآخذ التلفاز وفضاء الأنترنيت على سبيل المثال،رغم أن القدرة على التحكم في إحدى هاتين الوسيلتين،أو فيهما كلتيهما ممكنة،لكن الإمكان نظري وليس تطبيقيا عمليا،إلا عند فئة جد محدودة ومعدودة إلى معدومة،تشكل نسبة محتشمة لا يظهر لها أثر في خضم التصارع القائم بين الفعل التربوي والفعل السلوكي الملحوظ بين جُدر المدارس وفي شوارع المجتمع،ذلك أن التلفاز قد يبدو بوجه من البراءة فيما يقدم للمشاهدين،وأحيانا يدعو إلى منع الصغار عن المشاهدة،لكن ذلك أيضا شفوي ونظري،وأما ما يطغى على الفرجة ويستحوذ على العقول لدى المشاهدين،هو ما يعيشونه طيلة التعايش مع الشاشة من أحداث غيرعادية،رغم أنها تمثيلية وغايتها في الرسالة الادعائية هي إثارة القضية من أجل الاتـّباع أوالحذر أو العلاج، فإذا بالذين يشاهدون يوما عن يوم، يتحولون في الغد إلى أشخاص غير عاديين ،قد هاجت في دواخلهم نزوات وشهوات ومطامع غير شريفة،وكادوا ينفجرون من تحتها انفجار البركان،ثم إذا هُم يضعفون تحت وطأة ما تحمل جوانحهم،فلا يجدون إلا الاستجابة لما هم فيه من حرقة نارية،ثم إذا هُم ينفذون ما عقدوا عليه عزمهم كردود من أفعال بافلوفية،ثم إذا هم يجدون أنفسهم قد ركبوا الأهوال وارتكبوا شين الأفعال. أما عالم الأنترنيت ،فهو تصغير للعالم الذي تعيش فيه الإنسانية،هذا الذي استطاع سحر التكنولوجيا أن يصيـّره كذلك،فغدا في متناول من أراد فيه الإبحار بدون شرط أو قيد، وخصصت لهذا الإبحار في هذا العالم محلات مرخص لها،يحج إليها من الشباب من هو ابن المدرسة أو من كان كذلك يوما ما،فيتخذها الميممون لها أوكارا موبوءة،قد أخذت عنها وطأة الســّنة والكرى أعين المراقبين وذوي السلطة،كما سطا السهوعلى يقظتهم، إضافة إلى كون الشباب يتواصل عبرهذه الشبكة مع غيرهم في أي مكان أو زمان، ومع أي كان، ويلجون عبرها عوالم لا يقدرون على الولوج إليها في الواقع،وهي كلها لا تسلم معها أو فيها الجرة دوما،ثم إن معاودة الكــرّة،وانجذاب المبحرين إلى هذه الفضاءات،يجعلهم يتزودون يوما عن يوم بقيم تلك العوالم وبعاداتها وبهرج حضارتها اللامع،فإذا هم يتحولون شيئا فشيئا إلى أشخاص آخرين،قد انسلخوا عن كل القيم الأم التي تربوا عليها،ثم إذا هم يتعلقون بالسراب،وتتحول حياتهم إلى تفاهة تطغى فيها القشور على الألباب،وتهيمن فيها الأوهام على الحقائق.أما قضية الانفتاح المغلوط،والادعاء المزيف تحت مظلة مبدإ حقوق الإنسان،والحرية في التعبير أو التصرف،فكلها سراب يجري من ورائه الظمآن فلا يبلغه،بل يظل يجري وهو منشغل عن غير ذلك بالسعي المجهد الكذوب،فيكون بذلك غير عادي،بل عليلا في الشخصية وفي التفكير وحتى في السلوك والاعتقاد. وعند هذه النقطة،أقف وقفة إنذارية صارخة في أسماع الشباب،لأقول لهم بأن أصل كل نقص فهو تفريط في جانب الدين،وتجاوز لتعاليمه،فهو الصون والحصن الحصين الذي يحفظ المرء من كل آفة، وهذا دور آخر حساس من الأدوار التربوية المهمة في المجتمع،وهو المرجعية الأساس التي يقوم عليها بنيان أي دور آخر،وهو عمودها الفقري، لذلك ، لابد من تداخل بين الأفعال التربوية وممارستها بما يلزم درء ما خبـُث من الفعل والقول والسلوك،بين كل الأطراف المشرفة على تلك الممارسة،بشكل مباشر أو غيره… وإلا فإلى أي مـــرذّ ترد هذه السلوكات الطائشة والإجرامية لدى الشباب؟التي ترتكب في مجالات عدة مختلفة؟لكنها كلها تنم عن خصاص يعاني منه هؤلاء،بل يُنتظر علاجه،والائتلاف من أجل ذلك، من قبل الأسر،والمؤسسات التربوية،والمؤسسات الدينية، والمؤسسات الإعلامية، والمؤسسات الإصلاحية،والجهات المتدخلة الفاعلة ،ومنها جمعيات المجتمع المدني،وغير هؤلاء،كل من موقعه.أفليس هذا الذي تشهده الحياة بين أيدي هؤلاء،وتحت مسؤولياتهم تقصيرا صارخا ،وتفريطا صاخبا في أداء الأدوار المنوطة بهم؟ أفليس ذلك كذلك فشلا واستسلاما للأهواء النفسية والإغواءات الشيطانية ،وإنها لعنصران يتفاعلان فينتج عنهما ما ينتج وما نشهد وما نحصد بعده من عواقب وخيمة،تضرب كل القيم من الأساس وتهوي بالإباء الإنساني وعفته وكبريائه وحريته إلى مهاوي الرذيلة وأراذل الدرجات؟ فبدلا من أن نعالج بأدوية قد تكون فاعلة أو لا تكون،وبدلا من البحث عن الإجراءات المتحرجة وأنصاف الحلول، علينا بالوقاية،لأنها خير من العلاج.

 أحمد طاهيري







تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.