الخميس 2 مايو 2024| آخر تحديث 4:04 08/29



الجدّية ورهانات المدرسة المغربية الجديدة

الجدّية ورهانات المدرسة المغربية الجديدة

عبد الرحمان زيطان

ينطلق الموسم الدراسي المقبل في سياق جديد ومختلف. سياق تؤطره، من جهة، خصوصيات المحطة التالية في سيرورة تفعيل وتنفيذ أحكام ومقتضيات القانون الإطار 17-51 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، بشكل عام، وسيرورة إرساء وتنزيل التزامات خارطة الطريق (2022-2026) بشكل خاص. كما تؤطره، من جهة ثانية، مخرجات الخطاب الملكي السامي الذي وجهه جلالة الملك محمد السادس إلى الشعب المغربي يوم السبت 29 يوليوز2023 بمناسبة عيد العرش المجيد الذي يصادف الذكرى الرابعة والعشرين لتربع جلالته على عرش أسلافه الميامين. لذلك، فإن رهانات الموسم الدراسي، الجاري التحضير له، لن تكون عادية، مما يعني أن سيرورة تجديد المدرسة المغربية ستواجه تحديات عميقة، نوعية ومركبة. وهي تحديات، لا شك، أنها تتجاوز ما تتطلع إلى تحقيقه من نتائج كمية لتسائل هذه النتائج، نفسها، من حيث نوعيتها وجودتها، كما تسائل سيرورة الأداء وصدقية الممارسات المنجزة. وعليه، فإن هذه السيرورة يوجهها معيار مركب: قيميّ أساسه الانتماء للوطن (الدولة- الأمة) ودستوري أساسه إحقاق الحق وربط المسؤولية بالمحاسبة. وقانوني أساسه إلزامية القاعدة القانونية وتجردها وعموميتها. وهو معيار متعدد الأبعاد، لكن جوهره واحد يلخصه لفظ الجدّية الذي تكرر بشكل دال وعميق في جلّ فقرات الخطاب الملكي المشار إليه أعلاه، وارتباط هذه الجدية بالشخصية المغربية وما تتسم به من صفات حدّدها الخطاب الملكي، نفسه، في الصدق والتفاؤل، والتسامح والانفتاح، والاعتزاز بالتقاليد العريقة، وبالهوية الوطنية الموحدة وعلى الجدّية والتفاني في العمل.

الجدية بالمعنى التي اتخذته في جل فقرات هذا الخطاب، وبما اتسمت به من تأصيل وتركيب، تعدّ اختيارا استراتيجيا مستعرضا من حيث كونها قيمة ورؤية ومنهجا وأداء وتقييما، ومن حيث كونها تغطي كل المجالات المتصلة بالمواطنة والحياة اليومية للمواطنين من ممارسات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية قيمية.

يؤشر هذا التوجيه السامي على أن المغرب دولة ومجتمعا يواجه ظرفية تاريخية نوعية يتداخل فيها، من جهة، ما يعرفه العالم من تحولات عميقة، إن على مستوى منظومة القيم وما يعتور مرجعياتها من اهتزاز وتأزم، أو على مستوى صيرورة الصراع الأممي لإعادة تشكيل مراكز القوة والهيمنة وإقامة صرح النظام العالمي الجديد وإرساء قواعد جديدة للقوة والسيادة والنفوذ. ومن جهة ثانية، ما يواجهه المغرب الجديد من إكراهات وتحديات، وما يعرفه من تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية ومناخية. كما يؤشر هذا الخطاب على أن هذه الظرفية النوعية غير المستقرة تدفع المغرب دولة ومجتمعا إلى إحداث انتقال نوعي في الوعي والتفكير والتدبير والممارسة والتقييم، والانتقال الفعال والسريع من مستوى الفهم والاستيعاب الى مستوى التملك والاستبطان والفعل. كما تدفعه الى المزيد من الحيطة والحذر والتشبث بالقيم المغربية الأصيلة التي تتميز بها الشخصية المغربية. وهو ما يستوجب التعامل مع هذا الوضع بكثير من الجدية وذلك بالقطع مع كثير من الممارسات التي تناقض تجليات المواطنة اللإيجابية، ومنها: الممارسات التي تفتقد الى روح الانتماء للوطن وتروم تحقيق مصالح خاصة وضيقة وتحركها أهداف سياسوية ضيقة الافق، والممارسات التي ينقصها الالتزام والصدق والمسؤولية في الاختيارات التشريعية والتنفيذية والتدبيرية والأدائية والممارسات الوظيفية والمهنية، والممارسات التي تحرص على تكريس التهرب من كل صيغ وأشكال المراقبة وتقييم الاداء والمحاسبة.

إذا اعتبرنا إصلاحات الدولة الاجتماعية كجيل ثالث من المشاريع الإصلاحية الاستراتيجية التي يباشرها المغرب في العهد الجديد تشكل عنوان المرحلة الراهنة، وتشكل صمام أمان فعال لتأمين الاستقرار وإحقاق الحق في التضامن والتنمية كجيل ثالث من حقوق الانسان يستوعب كل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن مشروع إصلاح منظومة التربية والتكوين يحتل مركز الصدارة بين هذه المشاريع. وهو ما يدفعنا للقول بأن الجدية كاختيار استراتيجي تُعدّ الجواب الممكن في هذا السياق التاريخي لتسريع وتيرة الإصلاحات وتجويدها. وهو اختيار قويم ومعزز يسعى، أولا، إلى تعميق الرؤية الإصلاحية التي تضمنتها كثير من التوجيهات السامية الخاصة بمنظومة التربية والتكوين في العهد الجديد والتي تضمنتها العديد من الخطب الملكية بدءا بخطاب 20 غشت 2012. وثانيا، إلى منح الكثير من القوانين والتشريعات المنجزة وكثير من التدابير المعتمدة روحا وعمقا غائيا ينقلها من وضعية التنصيص إلى وضعية الفعل والممارسة والأداء بنفس جديد يقوم على الالتزام والتفاني في العمل. وثالثا، يعطي مؤسسة المجلس الاعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي كمؤسسة دستورية نفسا جديدا وجرعة إضافية من الثقة تدعم ما أنتجته هذه المؤسسة في المرحلة الأخيرة من دراسات وتقييمات وآراء اتسمت بكثير من الوضوح والنضج والجرأة في معالجة الكثير من القضايا وخاصة تلك المتصلة بتنفيذ أحكام القانون الإطار 17-51 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي.

“في ظل ما يعرفه العالم، من اهتزاز في منظومة القيم والمرجعيات، وتداخل العديد من الأزمات”، وفي ظل تحديات الانخراط الفعال في مجتمع المعرفة، وما تفرضه متطلبات الحاضر والمستقبل وانتظارات الأفراد والمجتمعات، وبعدما قدمت الأسرة استقالتها من مهمة التربية تحت ضغط إكراهات الواقع وهيمنة ثقافة الاستهلاك والتفاهة، وما عرفه براديغم السلطة داخل الأسرة من تغيرات، أضحى لزاما على المدرسة، بشكل أو بآخر، التكفل بمهمة التربية والتنشئة الاجتماعية إلى جانب مهمة التكوين والتعليم. لذلك استوجب الأمر النظر إلى المدرسة باعتبارها مجتمعا وسيطا للتعلم والعيش، وفضاء لاستنبات قيم العيش المشترك بمرجعياتها الأصيلة وصيانتها والتعود على ممارستها، كما هي فضاء لاكتساب المهارات الحياتية الناعمة الذاتية والاجتماعية، وبناء وتقاسم الخبرات بمكوناتها المعرفية والمهارية والعاطفية بما يعزز بناء الشخصية المغربية المستقلة وما يدعم التربية على الاختيار ويساعد المتعلمات والمتعلمين على اختيار وبناء وتوطيد وتدقيق مشاريعهم الشخصية الدراسية والمهنية ويسهم في تأهيلهم للاندماج الاجتماعي والتكيف مع متطلبات العصر. إنها المدرسة التي تتجاوز ذاتها التقليدية في الرؤية والفعل والممارسة والتقييم، وتشتغل وفق نموذج بيداغوجي مندمج ينفتح على المتعلم وعلى حاجاته واستراتيجياته وميولاته واهتماماته كما ينفتح على متطلبات التنمية المجتمعية ومستلزمات الانفتاح الإيجابي على المحيط والمنظومة العالمية. إنها، كذلك، المدرسة التي تشغل فيها الفنون بمختلف مجالاتها مساحات أوسع حتى تكون الحياة المدرسية حياة حقيقية تنظر إلى المتعلم كذات إنسانية فاعلة بدل أن يكون هذا المتعلم مجرد مشروع تقني يستجيب لحاجات السوق ومتطلبات الاستثمار. ومن ثمة، فهي المدرسة التي تقطع مع خوارزميات نقل المعارف ونقل المهارات ونقل القيم كحافظات وكبسولات قابلة للتخزين وإعادة الاستعمال في المحطات التقييمية خارج نطاق ما يعتمل داخل الذات الفردية والمجتمعية من تفاعلات، وما تتطلبه هذه الذات من تأهيل وخبرات لمواجهة سؤال الواقع في بعديه الحاضر والمستقبل.

على هذا الأساس، يحق التأكيد على أن جودة مخرجات منظومة التربية والتكوين من جودة مدخلاتها ومن جودة سيرورات الأداء والممارسة وقيادة التغيير وخاصة في نقل أحكام القانون الإطار17-51 إلى مستوى التنفيذ والتفعيل سواء اتخذت شكل برنامج عمل حكومي ملتزم به أو مشاريع مندمجة أو خارطة طريق أو ما شابه ذلك. وأن هذه المدخلات وهذه السيرورات إن لم تشكل الجدّية بمعناها المتعدد والمركب والمستعرض مقوما من مقوماتها لن تتحقق الجدية في مخرجات هذه المنظومة. وهو ما يعني أيضا بشكل ميكروسكوبي أن جودة النموذج البيداغوجي باعتباره قطب رحى هذه المنظومة بمكوناته المتعددة مرتبط أيما ارتباط بجودة تدبير هذا النموذج وحكامته. وأن جودة التعلمات والمكتسبات في علاقة بنوعية المخرجات المستهدفة رهينة بجودة تدبير المدرسة وبجودة تدبير تأهيل وتكوين المدرسين وبجودة تدبير الزمن المدرسي وبجودة آليات الاستئناس وبناء وتوطيد المشاريع الشخصية وآليات التوجيه والمواكبة وبجودة المقاربات البيداغوجية وبجودة عمليات التقييم وغاياته وآلياته وشروط إنجازه بشكل مركب ومندمج.

ذاكرة منظومة التربية والتكوين قوية وليست كما يعتقد البعض أو يتوهم الآخرون، وإمكانيات الاسترجاع والتذكير متوفرة لكل مهتم أو متتبع إن لم نقل لكل من أراد التقاط المعاني من الطريق. لكن معادلة الممكن والواجب (ما ينبغي أن يكون) في سيرورة تجديد المدرسة المغربية تبقى ذات أهمية كبرى، ولا يسمح منطق الجدل الموضوعي بين شرطيات الذات والموضوع بإنكارها أو التغافل عنها. القراءة المتأنية والموضوعية لسيرورة تجديد المدرسة المغربية ومحطاتها وسياقاتها المختلفة تجعلنا نحسم هذه المعادلة بالميل الى الممكن المتاح على حساب الواجب، لان هذا الذي ينبغي أن يكون يظل أفقا وطموحا مشروعا لكنه جواب يخلو من مقوم الزمن والسياق والشرطيات الذاتية والموضوعية ويقفز على محددات الواقع والممكن والشرطيات السياسية والاجتماعية. لعل مشروع مبادرة جيل مدرسة النجاح التي أطلقتها الوزارة الوصية على القطاع من خلال المذكرة الوزارية رقم 120 بتاريخ 31 غشت 2009 (المشروع) والمذكرة الوزارية رقم 164 بتاريخ 25 أكتوبر 2010 (التوجهات والتدابير المؤطرة) ضمن ترسانة المبادرات ومشاريع البرنامج الاستعجالي قد تعثرت كثيرا ولم تتمكن من تحقيق أهدافها كاملة بسبب غياب الجدية اللازمة، وبسبب الهشاشة في المنظومة التدبيرية والقيادية لمختلف مكونات هذا المشروع وعملياته، وسيادة منطق التجزيئ والتذرية التدبيرية، وضعف النخب الوسيطة وعدم قدرة غالبية هذه النخب على تملّك خصوصيات هذه المبادرة وآليات تدبيرها على أرض الواقع، إلى جانب الإرساء الهش لمستلزمات بناء وتدبير وتفعيل هذه المبادرة.

طبعا هذا لا يدفعنا إلى تسويد المشهد والاكتفاء بالنظر إلى الجزء الفارغ من الكأس، لأن ما تحقق في ظل هذه المبادرة وفي ظل مشاريع البرنامج الاستعجالي من نتائج تراكمية في الرؤية التدبيرية والآدائية ومكتسبات كمية على مسار تعميم الولوج وتأمين شروط نجاحه لا يمكن إنكارها، بل ظلت تشكل إلى حدود اليوم أهم النقط الايجابية التي حققها البرنامج الاستعجالي وخاصة على مستوى التعليم الابتدائي. لذلك، فإن الجدية كما يطرحها الخطاب الملكي السامي في هذا السياق التاريخي من زمن تجديد المدرسة المغربية هي أهم المقومات التي يستلزمها إرساء منظومة الجودة في جسد منظومة التربية والتكوين والانتقال من تعميم الولوج وإلزامية إحقاقه إلى تعميم الاحتفاظ الذي لا يمكن أن يتحقق الا بتعميم الجودة على مختلف مكونات النموذج البيداغوجي. صحيح أن ما اتخذته الدولة من تدابير الدعم الاجتماعي أسهمت في تحقيق بعض التقدم على مسار الاحتفاظ، لكن ما تستطيع تحقيقه منظومة جودة النموذج البيداغوجي بمختلف عناصره وآليات تصريفها يبقى الأهم والأنجع. لأنها تجعل المتعلم قادرا على الاحتفاظ بنفسه داخل المنظومة وتحقيق النجاح المدرسي والارتقاء الفردي، في حين تدابير الدعم الاجتماعي تجعل المنظومة هي الساهرة على تأمين هذا الاحتفاظ طيلة مرحلة التعليم الإلزامي. مما يجعل هذه التدابير تؤجل الفشل الى غاية سلك التعليم الثانوي. إن المفتحص لقاعدة بيانات الانقطاع عن الدراسة في سلكي التعليم الثانوي وكذا في التعليم العالي يجدها تؤشر على ضعف قدرة منظومة الدعم الاجتماعي على تيسير الاحتفاظ وتقليص الفوارق والحد من كل أشكال التسرب والانقطاع. كما يؤشر على ذلك حجم الفارق بين عدد الحاصلين على شهادة البكالوريا وعدد المتملكين للكفايات النهائية في هذا السلك (عدد الناجحين بمعدل أقل أو أكبر من 14/20) وطبيعة الشعب واستقطاباتها بما لذلك من أثر على مستوى التأهيل لمواصلة التعليم العالي بمساراته المختلفة، وبما له من أثر، كذلك، على مستوى التأهيل المهني والاندماج الاجتماعي.

لا شك أن جودة مخرجات منظومة التربية والتكوين وفق الرؤية الاستراتيجية للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي وأحكام ومقتضيات القانون الإطار17-51 لن تكون إلا نتيجة فعلية لجودة النموذج المعتمد في تدبير عمليات التجديد وقيادة التغيير على مختلف مستويات تدبير المنظومة( محليا وإقليميا وجهويا ومركزيا)، وجودة المقاربات البيداغوجية المعتمدة، وجودة مفردات المنهاج التربوي وتكاملها، وجودة تأهيل وتكوين وتأطير ومواكبة الممارسات المهنية لكل الفاعلين في مجتمع التعلم (المدرسين -الاداريين -أطر الدعم -….)، وجودة آليات التقييم (الفاعلين- التعلمات-المؤسسة-المنظومة).

إذا كانت الجدية تشكل اليوم توجيها ساميا بمثابة اختيار استراتيجي لتجاوز حالات التعثر والتأخر والارتباك، ولمباشرة مختلف الإكراهات والتحديات التي تواجه منظومة التربية والتكوين كباقي مشاريع القطاع الاجتماعي بما تقتضيه من شجاعة واجتهاد وتفان في العمل فإن تفعيل الجدية بالمعنى المقصود يستلزم تغييرا في أدوات النظر كما يستلزم الحسم بأن الاستثمار في المورد البشري هو مدخل أساس للتنمية وإحقاق الحقوق والاستقرار والتقدم، وأن المدرسة توجد في قلب هذا الاستثمار وفي قلب مشروع التنمية الشاملة.

إن ما عايشناه من داخل منظومة التربية والتكوين، وفي كل المحطات منذ لحظة التوافق على الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي شكل في حينه الجواب الممكن لإرساء مشروع المدرسة المغربية الجديدة، يدفعنا إلى القول بأن هذه المنظومة تعيش اليوم لحظة التحول النوعي الحقيقي لإحقاق الحق في التعليم الميسر والجيد والناجع. وأن القراءة المتأنية للتجربة الإصلاحية وتراكماتها والنظرة الاستشرافية للمآلات والاختيارات الاستراتيجية يفرضان القول بأن تجديد المدرسة المغربية في هذا السياق التاريخي وفي ضوء مخرجات الخطاب الملكي السامي يستوجب توجيه الاهتمام والعناية إلى ما يلي:

أولا: الجدية في تجديد مستلزمات حكامة المنظومة وتفعيلها على أرض الواقع بما يقتضيه الأمر من كفاءة والتزام ومسؤولية. وهذا لن يتحقق بالاستمرار في اعتماد نفس المنظومة التدبيرية، والاستمرار في اسناد مهام تدبير هذه المنظومة لبعض الأطر من خارج المنظومة، ولأطر تستمد مقومات حضورها في مختلف مستويات التدبير من خارج نطاق الكفاءة المهنية، ولأطر غير محصنة بمهام ومسؤوليات محددة وقابلة للتقييم، ولأطر تشبعت بالثقافة التدبيرية التي كانت وراء مختلف الاختلالات والتعثرات التي عانت منها المنظومة خلال مرحلة تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين بمختلف محطاتها، بل كانت جزءا منها وشريكا في كثير منها.

ثانيا: الجدية في الحرص على الصياغة المتقدمة لنظام أساسي قطاعي بنفس جديد تنسجم مقتضياته وأحكامه مع مقتضيات وأحكام القانون الإطار وتطلعاته، وتتلاءم مع القيمة الرمزية لمهن التربية والتكوين في تحريك عجلة تنمية المجتمعات وتقدمها وازدهارها، وفي نفس الوقت تقطع مع منطق تقليص الأدوار وتعويم الوظائف وتكريس منطق الغلبة ومنطق تعميق الهشاشة في جسم مهنيي القطاع. وهو ما يستلزم: أولا، الجدية في تحديد مهام وكفايات الأطر التربوية والإدارية والتقنية المنتمية لمختلف الفئات المهنية العاملة في مجالات التربية والتكوين والبحث العلمي في دلائل مرجعية للوظائف والكفاءات كما نصت على ذلك المادة 37 من القانون الإطار. لأن أي نظام أساسي تتم صياغة أحكامه وبنوده خارج نطاق هذه المادة يجعلها معطلة مهما بلغت درجة التوافق حولها. وثانيا، الجدية في تجديد مسارات التكوين التأهيلي من حيث الكفايات والمقاربات والمدد الزمنية، وفي إعادة النظر في الاستراتيجية الوطنية للتكوين المستمر، وفي إرساء مستلزمات المواكبة المهنية الجيدة، كل ذلك، في ضوء المهام المطلوبة وما تتضمنه الدلائل المرجعية للوظائف والكفاءات وبيئة الإنجاز المتوفرة. وثالثا، الجدية في إعادة الاعتبار لمهن التربية والتكوين في السلم الاجتماعي من خلال تحسين الوضعية المادية والمهنية للأطر الإدارية والتربوية وأطر الدعم والتوجيه وأطر التأطير والمراقبة والتقييم. كما يستلزم رابعا الجدية في اعتماد الوظيفية والتوازن والانصاف وانسجام طبيعة المهمة بعيدا عن منطق الربح والخسارة واستثمار هشاشة القوة الاقتراحية والسعي إلى تفكيك المفكك في جسم مهنيي القطاع. إن السعي إلى تعميق الهشاشة في جسم مهنيي القطاع والاستمرار في اعتماد مقاربات للتفكيك والتفريق، مهما كانت الجهات الداعمة له، له تداعيات وآثار ميدانيا وعلى جميع المستويات، إذ لا يمكن الاشتغال بروح الفريق على مستوى من مستويات تدبير الشأن التربوي، بما يتطلبه من حس الانتماء والثقة في الذات والقدرة على المبادرة والابداع والعمل المشترك، بفعاليات مهنية يسكنها الحذر وتعيش الاضطهاد النفسي والميولات العدائية والإقصائية والاكتئاب المهني وضعف الثقة والرغبة في العزلة المهنية والرغبة في الهروب من كل الالتزامات المهنية.

ثالثا: الجدية أولا، في استكمال آليات مواكبة تجديد المنهاج التربوي وفق ما نصت عليه أحكام المواد 28 و 29 و30 و31 و 32 من القانون الإطار (لجنة دائمة تعنى بالتجديد والملاءمة – إعداد الإطار المرجعي للمنهاج والدلائل المرجعية للبرامج والتكوينات- تحديد الهندسة اللغوية – …)، لأن إدخال أي تغيير يخص المنهاج التربوي والبرامج الدراسية والمقاربات البيداغوجية المعتمدة لتصريف هذا المنهاج وهذه البرامج خارج نطاق ما نصت عليه أحكام هذه المواد القانونية يجعلها معطلة، مهما كانت السياقات التي دعت إلى ذلك ومهما كانت جدية المقترحات المقدمة. ثانيا، استكمال مراجعة المناهج الدراسية للتعليم الثانوي بسلكيه وإرساء حقيقي ومنصف للمسارات وفق الحاجات المعبر عنها ووفق ما يقتضيه منطق تنويع العرض المدرسي في ارتباط تام بمتطلبات سوق الشغل ومتطلبات الانخراط في اقتصاديات المعرفة ومتطلبات التنمية. وثالثا، التراجع عن إقحام مقاربات بيداغوجية مستوردة في التعليم الابتدائي على شكل جزر مهما كانت الدوافع والتحديات التي استوجبتها، قبل استكمال إرساء المقاربات الحالية التي تضمنتها وثيقة المنهاج الدراسي للتعليم الابتدائي المصادق عليها بموجب القرار الوزاري رقم 80.21 بتاريخ 29 يوليوز 2021، وإخضاعها للتقييم الكامل. لأنها وثيقة تُعدّ متقدمة جدا على مستوى الرؤية المنهاجية وعلى مستوى مقاربات تصريفها رغم ما يعتريها من نواقص وثغرات. وبمنطق الخبرة والتجربة التاريخية التي راكمتها المنظومة وحجم التكلفة التي تطلبه إنجاز هذه الوثيقة لن يكون هذا الإقحام المتعمد والمفكك إلا هدرا لزمن الإصلاح وتعميقا لأزمة الثقة وأزمة تدبير الإصلاح وقيادته وتبخيسا للخبرة الوطنية والنخب التربوية وما تتميز به من كفاءة وتأمينا متعمدا لشروط إعادة إنتاج التعثر والفشل والهدر حتى لو تم الانفتاح على عينة من الأطر بمسميات معينة وإدماجها في مسلسل “مغربة” هذه المقاربات كما تم إدماج أغلبها، من قبل، في مشاريع سابقة. إن ما يتم استحضاره من إحصائيات كمية تظهر عجز منظومة التربية والتكوين وضعف استجابتها للمتطلبات المجتمعية والتعثر الحاصل في تنمية كفايات المتعلمين وضعف تعلماتهم ومكتسباتهم والنتائج التي يحصّلها المغرب في مختلف التقييمات الوطنية والدولية لا يقيم الشرعية لاستيراد مقاربات بيداغوجية واستنباتها في قلب الممارسة البيداغوجية على أساس أنها الحل السحري لتجاوز ما تراكم من تعثرات ومعالجة ضعف بناء التعلمات وتملكها واكتسابها وتوظيفها. لأن حالة التعثر والضعف الحاصل في نوعية التعلمات ومستوى الاكتساب والتوظيف والإنتاج يتجاوز المقاربات البيداغوجية، على أهميتها، والممارسات الصفية بل وحتى الأنشطة المدرسية في تنوعها، وإنما يرتبط بمختلف مكونات النموذج البيداغوجي (الاختيارات – المناهج الدراسية – المقاربات البيداغوجية – الحياة المدرسية – الوسائط التعليمية- الإيقاعات الزمنية – التكوينات – التوجيه المدرسي والمهني – الامتحانات والتقييم)، كما يرتبط بمتغيرات أخرى من خارج هذا النموذج البيداغوجي ومن خارج منظومة التربية والتكوين بشكل عام. إنها ترتبط بسيرورة بناء المشروع التنموي وأساسياته ومقوماته لأن السؤال التربوي هو في أساسه سؤال سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي. وعليه، فإن تعطيل مقاربات بيداغوجية معتمدة قبل أن يتملكها المدرسون وتتشربها الفصول الدراسية وتخضع لتقييم شام، والسعي إلى اعتماد مقاربات جديدة يُعتقد أنها تجيب عن سؤال الجودة في الممارسات البيداغوجية بالمدرسة المغربية العمومية يُعدّ شكلا من أشكال الاختزال والهروب إلى الأمام وشكلا من أشكال توسيع دائرة الفوارق بين المدرسة المغربية العمومية والمدرسة المغربية الخصوصية ويعيق بناء الخبرة، وخاصة إذا علمنا أن هذه المقاربات الجديدة لا تقدم جديدا أفضل مما تقدمه المقاربات البيداغوجية القائمة (وسيكون لنا موعد مع مقال تفصيلي في هذا الشأن لاحقا).

رابعا: الجدية في إقرار أنشطة التربية الفنية والجمالية وتربية الذوق العام وإدماج الأنشطة المندمجة ضمن الزمن المدرسي بشكل منصف وواقعي ومتناغم، وباعتماد مقاربات جادة وفعالة وواقعية، تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المؤسسات التعليمية وخصوصيات الطفل المغربي وخلفياته الثقافية والاجتماعية، كما تأخذ حاجاته واهتماماته بعين الاعتبار. إن الأنشطة الفنية والجمالية وأنشطة تربية الذوق العام وتمثل واستبطان قيم العيش المشترك هي التي تمنح الطفل معنى الحياة الحقيقية، وتجعل الحياة المدرسية دالة ومؤثرة في سيرورة نمائه، وتجعله منفتحا على إنسانيته. وأن الأنشطة المندمجة هي التي تجعل المدرسة فضاء جذابا ومفعما بالحيوية، وهي التي تدعم الانصاف البيداغوجي عن طريق أنشطة دعم التعلمات ودعم التحصيل عن طريق مقاربات أخرى غير التي تعتمد في الانشطة الفصلية، وهي التي تجعل المتعلم منفتحا على جماعات أخرى للتعلم تقوم على معيار الحاجات لا على معيار المستوى الدراسي. لا يكفي المتعلمَ حجمُ المعارف والتعلمات التي يكتسبها في تربيته على الاختيار مهما كان حجم هذه التعلمات. بطبيعة الحال، تفيد التعلمات المدرسية المتعلم في الارتقاء الدراسي والنجاح، وفي بناء وتوطيد وتثبيت مشروعه الشخصي والمهني، لكنها لن تفيده في اختيار وتطوير وصيانة مشروعه الذاتي للعيش المشترك كإنسان، ولاكتمال مواطنته كمواطن متشبع بقيم تمغريبيت. وهو ما يدعو، أيضا، إلى تجاوز ما سمي بالأنشطة الموازية كأنشطة تكميلية وترفيهية، وإلى إسناد تنشيط أوراش هذه الأنشطة الفنية والمندمجة بما في ذلك أنشطة الدعم البيداغوجي والاستدراك والتقوية إلى فاعلين تربويين منهجيين ( ملتزمين بالمنهاج التربوي واختياراته ) ضمن غلاف زمني رسمي مهني لا يتأسس على التطوع ولا على الشراكات الممكنة وإنما يتأسس على المهمة الوظيفية كمهمة من المهام المدرسية الخاضعة للتأطير والمراقبة والتقييم بدل اسناده لأفراد وفعاليات من خارج هذا المنهاج مهما كانت الاعتبارات، لأن المهن المدرسية من تكوين وتدريس وتنشيط وتأطير وتدبير ومواكبة ودعم وتوجيه وتقييم ليست مهن قابلة للتفويت، شأنها شأن المهن الطبية لأن موضوع اشتغالها الإنسان إن لم نقل هي أكثرها خطورة.

خامسا: الجدية في تمكين المؤسسات التعليمية من مستلزمات قيام ممارسة بيداغوجية جيدة (العدة الديداكتيكية والتكنولوجية- الأحياز الزمنية الملائمة -التفييئ البيداغوجي والفصول الدراسية الملائمة- …)، وممارسات تدبيرية ناجعة ( توفير الموارد البشرية اللازمة – ضمان تفعيل مجالس المؤسسة- إرساء مواكبة بناء وتفعيل وتقييم مشاريع المؤسسة). لإن المدرسة كمجتمع للتعلم بما يقيمه هذا المجتمع من علاقات وما ينتجه ويتقاسمه من أفكار وممارسات ليست فضاء موجها للتربية والتعليم لفائدة الأطفال الوافدين على هذه المدرسة وإنما هو فضاء للتكوين الموجه لمختلف الفاعلين من داخل هذا المجتمع بما يتقاسمونه من خبرات وما يتبادلونه من معارف وما يقيمونه من علاقات وما ينجزونه من ممارسات تضامنية وتعاونية وأعمال مشتركة، وما يوفره هذا المجتمع الوسيط من فرص للعيش المشترك ومن بيئة آمنة للعمل المشترك والفعال.

سادسا: الجدية في تجديد وإرساء وتفعيل منظومة التقييم من خلال مسارين اثنين: مسار أول يروم تحيين منظومة تقييم التعلمات على مختلف المستويات وتأهيلها بما يضمن لها المصداقية والفعالية والانتاجية وربطها بالكفايات وبنوعية المسارات الدراسية وطبيعة المخرجات المنتظرة وخصوصية هذه المسارات ومستلزمات مشاريع التخرج ونوعيتها بما يتطلبه الأمر من تشغيل فعال لآليات التوجيه المدرسي والمهني وما تتطلبه من معارف ومهارات وقدرات. لأن الممارسات التقييمية والتقويمية لا ترتبط بالمخرجات وحسب، وإنما ترتبط بالمدخلات (تقويم المكتسبات والمستلزمات الدراسية) والسيرورات (التقويم التكوين باعتباره فعلا للمواكبة في بعديها البيداغوجي والتوجيهي). أما المسار الثاني فيروم تجديد وإرساء وتفعيل آليات التقييم والمواكبة المهنية على أساس التعميم والشمولية والانتظام (التأطير – الافتحاص – المراقبة – تقييم الاداء)، وتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة بشكل شمولي ومتكامل وعلى جميع مستويات المنظومة والمهام التربوية والتدبيرية لأن منظومة تقييم الأداء المهني في منظومة التربية والتكوين ما زالت متعثرة بشكل كبير وغير منصفة وغير جادة، بل حتى دليل تقييم الأداء المهني الصادر في سنة 2008 لم يتم التوافق حوله، ولم يعرف طريقا للتفعيل، ولم يخضع لأي تحيين يذكر. مما يجعل تدابير التقييم السائدة غير قادرة على المساهمة في تحسين جودة الأداء وتطويره كما يجعلها غير قادرة على إنتاج فرص لتعزيز المبادرة وتشجيع الاجتهاد والإبداع.

لا شك أن الجدية كاختيار استراتيجي بما تفيده رؤية ومنهجا وأداء، وبما تستند اليه من خلفيات قيمية ودستورية ومن توجيهات ملكية سامية ومن خصوصيات مرحلية حاسمة، تدفعنا إلى مساءلة كل السيناريوهات المعتمدة لتنفيذ أحكام القانون الإطار 17-51 على أساس، أولا، أن هذا القانون ليس مجرد مجموعة أحكام توافقية تم إنتاجها في ظرفية سياسية معينة يجعلها قابلة للتعطيل والتجاوز في ظل ظرفية سياسية أخرى مختلفة، وإنما هو قانون جاء نتيجة مسار طويل من الإنجازات والتراكمات قامت بها السلطتين التنفيذية والتشريعية وقامت بها مؤسسة المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي بدءا بالعمل التقييمي لمسار تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين والمشاورات الوطنية حول المدرسة وانتهاء بالنقاشات والتفاوضات والتوافقات التي سادت داخل البرلمان حول مواد وأحكام هذا القانون مرورا بالرؤية الاستراتيجية (2015-2030) والتدابير ذات الأولوية وما إلى ذلك. وهي إنجازات وتراكمات كلفت الكثير من خزانة المالية العمومية، وتعد تراكما هاما على مسار تجديد المدرسة المغربية. وثانيا، أن خريطة الطريق باعتبارها سيناريو معين من بين السيناريوهات الممكنة في السياق السياسي الحالي لا يمكنها أن تكون بديلا عن أحكام هذا القانون أو بعضها، أو أن تسعى إلى تعطيل بعض أحكامه أو تجاوزها. كما لا يمكنها أن تقيم تدابير خارج نطاق هذا القانون وما يتطلع إلى إرسائه لتجديد المدرسة المغربية. وثالثا، إن ما يتم إنجازه ضمن خارطة الطريق 2022-2026 هو قابل للمساءلة إن على مستوى التشخيص أو البناء أو على مستوى ترتيب الأولويات أو على مستوى التدابير والإجراءات المعتمدة في إطار الالتزامات المصرح بها. فهل ستسعى الحكومة إلى تمثل وتملك مفهوم الجدية باعتبارها اختيارا استراتيجيا ممكنا في هذا السياق التاريخي النوعي وهي تعيد قراءة ما أنجزته من تدابير وإجراءات لحد الآن، وما تستعد لإنجازه في القادم من الايام؟ وهل سينطلق الموسم الدراسي المقبل (2023-2024) بروح جديدة قوامها الجدية في التخطيط والتدبير والأداء والتقييم؟







تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.