الأحد 28 أبريل 2024| آخر تحديث 10:52 08/10



المنجم الوحيد للذهب بالمغرب قرب تيزنيت.. حفرة الثراء والموت

المنجم الوحيد للذهب بالمغرب قرب تيزنيت.. حفرة الثراء والموت

or_afla_ighir_tiznitينتصب المنجم الوحيد لأغلى معدن في العالم بالمغرب بالقرب من “إنلوى”، القرية الفقيرة التي يعاني سكانها من مخلفات المنجم الكيماوية، في تناقض صارخ. فكلما ازدادت أرباح “أونا” المادية ازداد معها عدد الموتى بـ”إنلوى”.
تعرض تلفزيونات كثيرة سلسلة هوليودية تروي قصة سكان الجبل الذين تأثروا بالمواد الكيماوية، وتحولوا إلى مخلوقات هجينة تقتات على اللحوم البشرية، لكن لا أحد يعلم بأن قصص سكان الجبل تتكرر في جماعة “أفلا إيغير” بمدينة تافراوت. الفرق الوحيد بين أبطال المسلسل الهوليودي وسكان الجبل بـ”أفلا إيغير” هو أن الأولين يقتاتون على اللحوم البشرية، فيما الآخرون يموتون ببطء. إنهم جيران منجم “أقا” للذهب الذي لا يعلم العديد من المغاربة بوجوده، وحتى الذين يعلمون بوجود المنجم الوحيد لأغلى معدن في العالم في المغرب قد لا يعلمون مكانه وظروف اشتغاله، وأحوال جيرانه. هل هم بالفعل أغنياء لأن دورهم بنيت على أرض مكتنزة بالذهب؟ بل إن دورهم البسيطة تلمع أحيانا بذرات الذهب المخلوط بالطين.

للذهب صفرة قاتلة

على بعد حوالي 60 كيلومترا من منطقة تافراوت التابعة لعمالة تيزنيت توجد جماعة “أفلا إيغير”، وعلى بعد حوالي عشرة كيلومترات من هذه الجماعة يوجد دوار “إنلوى”، لكن قبل أن تصل إلى هذا الدوار لابد أن تجابه في طريقك مساحة شاسعة محاطة بسياج حديدي، وبداخلها آلات حديدية ضخمة ومداخن شامخة تصدر غازات صفراء.

أما الدوار فإنه انتصب بجانب هذا المنجم. دور طينية واطئة الأسقف وذرات غبار أبيض في كل مكان تسبب “حكة” في الأنف، فيما الأزقة تعج بأطفال جلهم تبدو حمرة على أرنبة أنوفهم أو صفرة في بياض عيونهم، إنها أعراض مرضي الحساسية و”بوصفير” كما يشرح ذلك أحد السكان، ويضيف المتحدث بأن الأمراض مستمرة في حصد الأرواح خصوصا “بوصفير” الذي يصيب الكبد.

علي من سكان “إنلوى”، رجل خمسيني ذو قامة متوسطة ونظارات طبية تبدو من ورائها نظرته المنكسرة، فقد لتوه فلذة كبده الذي لم يتجاوز ربيعه الحادي عشر. “مرض وديناه للطبيب من بعد مات” هكذا قال باقتضاب متأثرا، فلم يستطع أن يدخل في تفاصيل قصة فقدانه لابنه. لكن أصدقاءه تناوبوا في سرد ذلك. لقد كان الطفل المزداد بهذا الدوار ينعم بصحة جيدة قبل أن تبدو عليه علامات مرض “بوصفير” لينهار بشكل مفاجئ، هكذا نقله والده على عجل إلى الطبيب، وقبل أن ينبس الطبيب ببنت شفة بعد فحص الطفل، كان الأب شبه متأكد من أن ابنه مصاب بهذا المرض لأنه المرض الأكثر فتكا في هذا الدوار، بل إن أعراضه يعرفها سكان “إنلوى” جيدا، كما يعرفون أسماءهم، نظرا لكثرة ضحاياه.

وصف الطبيب للمريض بعض الأدوية لكنها لم تتمكن من تأجيل الموت كما قال علي مضيفا “هذا مكتوب الله”، لكنه استدرك بنبرة المحتج :”اللهم إن هذا منكر، هاد المنجم قهرنا”.
ليس علي وحده من فقد عزيزا، بل إن الموت ظل يتجول بين أزقة الدوار متلفعا في عباءة مرض “بوصفير” منذ سنة 2000. فهذا شاب في ربيعه الثلاثين فقد هو الآخر أعز شخص إلى قلبه، إنها أمه خديجة التي لم يقو جسمها على تحمل المرض، فأسلمت الروح لبارئها بعد فترة قصيرة من المعاناة.

النزوح الاضطراري

أما ياسين الشاب ذو الثلاثين ربيعا فقد هجر الدوار بصفة نهائية واستقر بمدية مراكش، صادفته “هسبريس” هنا بعد أن جاء لزيارة والديه. فما الذي جعل هذا الشاب يهجر مسقط رأسه؟

“ماشي ما بغيت بلادي، بزز مني خويت الدوار” يقول ياسين. فقد تزوج هذا الشاب وقرر أن يستقر بقرية “إنلوى”، وكما هي سنة الحياة كان ياسين وزوجته يتوقان إلى أن يكون لهم أطفال. فبعد الحمل الأول لزوجته كانت فرحة ياسين لا تتصور، إلا أنها تفتتت على صخرة الواقع، فهذا الحمل لم يدم سوى أسابيع ليجهض. اعتبر ياسين الحادث عاديا، فرغبته في إنجاب أطفال ما تزال متقدة، لكن الأمر نفسه تكرر مع الحمل الثاني والثالث، ليعتقد هذا الشاب أن زوجته مريضة لا يقوى جسمها على الحمل. هكذا أسرع بها إلى طبيب مختص في أمراض النساء والتوليد. فأكد له هذا الأخير أن زوجته بصحة جيدة بإمكانها الإنجاب، وما يحول بينها وبين ذلك هو البيئة الملوثة التي تعيش فيها. والحل الوحيد أمام ياسين لينجب أطفالا هو هجرة هذا الدوار الملوثة بيئته. فرحل إلى مدينة مراكش لأن رغبته في الإنجاب كانت أقوى من رغبته في الاستقرار بمسقط رأسه إلى جانب والديه.

سيدة أخرى من سكان “إنلوى” حرمت من الإنجاب، قصتها لا تختلف كثيرا عن قصة ياسين. هذه الشابة تعمل في المنجم تعرضت للإجهاض مرارا لينصحها الطبيب بمغادرة القرية لكنها أبت، ما جعل زوجها يطلقها ويهجر القرية بشكل نهائي.

الهروب من قرية “إنلوى” أصبح أمرا عاديا بل ضروريا في الكثير من الأحيان، كما يقول عبد الله، وهو رجل خمسيني يشتغل في المعمل التابع للمنجم، عبد الله ذو مستوى تعليمي مكنه من فهم العديد من الأمور التي لا يستطيع كثيرون من أهل الدوار إدراكها. فهو حاصل على دبلوم الدراسات الجامعية العامة في الأدب الإنجليزي من جامعة القاضي عياض بمراكش، يعيش حياته بشكل يومي بالقرب من مواد كيماوية تستعمل في استخلاص الذهب من التراب. “العديد من المواد الكيماوية تسبب الموت بمجرد لمسها” يقول عبد الله خاتما كلامه بـ”الله يحفظ وصافي”.

“في أحد الأيام” يقول المتحدث: “انتبهت زوجتي إلى أن ابنتنا تواجه صعوبة في التنفس”، هكذا نقلها إلى الطبيب الذي وصف لها دواء، ونصح الأسرة بالعيش في مكان آخر إن هم أرادوا سلامة ابنتهم التي جف المخاط من أنفها. فهذا الأب رغم أنه يعمل في المنجم إلا أنه لم يتردد في ترحيل أسرته إلى مراكش متكبدا عناء التنقل بين مسكنه الجديد وعمله كل أسبوعين أو ثلاثة أسابيع أو شهر.

فما علاقة قصص الموت والإجهاض والمرض هذه بمنجم الذهب؟

الجواب يقدمه أهل الدوار معززا بوثائق طبية، فالعديد من الذين ماتوا كان سبب موتهم مرض “بوصفير”، كما أن الأطباء ربطوا هذا المرض بالبيئة الملوثة. “واش كاتسكن حدا شي فران ولا حمام” كان هذا هو السؤال الذي يكرره الأطباء لزوارهم من مرضى “إنلوى” اعتقادا منهم أن الأدخنة هي من تسبب في مرض زوارهم. فـ”ليت الأمر كان كذلك، فنحن نسكن بجانب منجم يصدر في اليوم أطنانا من المواد الكيماوية” يقول أحد السكان بنبرة ساخرة.

الموت ارتواء

العمل في منجم “أقا” للذهب مستمر 24 ساعة وطوال أيام الأسبوع، ويتناوب على العمل فيه ثلاث مجموعات. وكذلك هو الشأن بالنسبة للمعمل التابع للمنجم. وهو ما يجعل معاناة أهل “إنلوى” مضاعفة.

على مقربة من المعمل الذي تستخلص فيه شركة “أونا ذرات” الذهب من التراب، وضعت أنابيب ضخمة يتدفق منها غدير باستمرار، إنها شوائب المعمل التي تتدفق في حوضين كبيرين، بمجرد الاقتراب منهما تزكم أنفك رائحة أشبه بالكبريت. يقول محمد وهو أحد شباب هذه القرية بأنه وجد بجانب هذا الحوض العشرات من طائر اللقلاق ميتة في إحدى أيام الصيف، فقد حط الطائر المهاجر بالحوض ليرتوي منه لما بدا له أشبه ببركة مائية. ويضيف الشاب أن شركة “أونا” سرعان ما قامت بدفن هذه الطيور حتى لا يشيع الخبر. بجانب هذين الحوضين تتدفق شوائب أخرى في مساحة شاسعة. تنقل الشركة هذه الأنابيب تارة إلى شمال هذه المساحة وتارة إلى جنوبها وتارة أخرى إلى غربها أو شرقها. هكذا يتسرب الماء المحمل بالمواد الكيماوية إلى فرشاة المياه الباطنية مسببا في تلويثها. بعد أن تجف المياه تترك مادة بيضاء تتحول غبارا تنقله الرياح إلى الدوار.

بلقاسم شيخ سبعيني يمتلك ضيعة بجانب هذه الأحواض، يحكي كيف تحولت ضيعته هذه إلى مجرد ذكرى جميلة. ففي أحد أيام سنة 2002 استيقظ بلقاسم كعادته في الصباح الباكر وتوجه إلى ضيعته لسقيها بعد أن التهم فطوره على عجل. في ضيعة هذا الشيخ بئر بمضخة ومحرك وصهريج كبير تعيش فيه الأسماك والضفادع. بمجرد أن شغل بلقاسم المحرك وتدفقت المياه إلى الحوض طفت كل الأسماك والضفادع على سطح الماء وتوقفت عن الحركة، ليتأكد للشيخ أن الأسماك والضفادع قد ماتت، وأن بئره تلوث بفعل شوائب المعمل التابع لمنجم أونا. فتوجه دون تردد إلى إدارة المنجم التي اشترت منه هذه الضيعة الشاسعة بثمانين مليون سنتيم. يقول بلقاسم: “لا أمل لدي في ربح القضية إن توجهت إلى القضاء، لذلك اكتفيت بما قدمته لي الشركة من تعويض” مشبها معركته مع الشركة بالمعركة التي قد تنشب بين الفيل والنملة في إشارة منه إلى قوة”أونا” وضعفه. لكن ابنه محمد قال متحسرا: “الوالد الله يهديه ما بغاش يرفع دعوى ضد الشركة”، فهذه الضيعة كانت منذ 1962 تساوي أكثر مما قدمته “أونا” من تعويضات لبلقاسم حسب رأي ابنه عبد الله.

معاناة بلقاسم مع “أونا” لم تتوقف عند هذا الحد بل إنها ما زالت مستمرة، آخرها يحكيها بلقاسم بصوت هادئ، مسندا مرفقه إلى وسادة كأنه فقد الأمل في تغيير أحوال الدوار. قام بلقاسم بسقي حمارين له من أحد الآبار فمات أحدهما قبل أن يرفع رأسه من الماء، فيما الآخر مات بعد ذلك بساعة فقط. لتقوم الشركة بتعويض الشيخ مرة أخرى على دابتيه. محمد الفاعل الجمعوي بالمنطقة فسر الاستجابة السريعة من “أونا” لتعويض بلقاسم بكونها لا تريد شيوع مثل هذه الأخبار، وبذلك تكمم أفواه المتضررين ببعض الدراهم. متسائلا إذا كانت قد عوضته بهذا الشكل فكيف ستعوض من فقد أحد أفراد عائلته؟ مستدركا بل إنها تنفي أي مسؤولية عليها في الوفيات التي حصلت في “المدشر”.

جزء من الدوار تحول إلى دور مهدمة تبدو وكأنها تعرضت لقصف جوي، لكن سكان “إنلوى” يؤكدون أنها تهدمت بفعل الاهتزازات التي تسببها الانفجارات التي تقوم بها الشركة المستغلة للمنجم أثناء حفرها. جل السكان تحولوا إلى دور جديدة. المختار من بين السكان الذين مازالوا يعيشون في الدور الآيلة للسقوط قال وسبابته تشير إلى الشقوق في جدران بيته بأنه لا يقدر على بناء بيت جديد، لذلك فإن أطفاله يفزعون كلما حدث انفجار في المنجم.

أطلال تغيغيت

إذا كان أهل “إنلوى” ينزحون بشكل تدريجي، فإن دوارا آخر يدعى “تغيغيت” هجره أهله تباعا، لا يوجد فيه اليوم سوى أرملة وأبناؤها. دور طينية يكسوها غبار أبيض وجذوع نخل واقفة تشهد على واحة كانت هنا، ومجاري مياه جافة. يقول عبد الحي أحد سكان هذا الدوار النازحين نحو مراكش بأن الشركة المستغلة للمنجم استنزفت المياه بالمنطقة، فالمنبع الوحيد الذي يزود “تغيغيت” بالمياه نضب معينه، فاستحالت الحياة بالدوار ليرحل أهله إلى المدينة الحمراء.

فحتى دوار “إنلوى” عانى هو الآخر من نضوب منبعه، لكن الشكايات المتكررة التي قدمتها جمعية الدوار جعلت الشركة المستغلة للمنجم تجلب المياه للدوار عبر أنابيب من أحد المنابع الموجودة بالجبل.

منعرج 2000

يحكي أحد شيوخ المنطقة كيف كان دوار “إنلوى” قبل سنة 2000، حيث كانت الواحات خضراء وشجر الأركان في كل مكان، وخلايا النحل المنتشرة في كل الأرجاء. يقول: “لا يمكن أن تدخل بيتا من بيوت “إنلوى” دون أن تجد العسل وزيت “أركان” الذي يستعمله السكان في الطهي”. ثم يستدرك بلغة متحسرة:”أما الآن فهم يجنون الذهب ونحن ينعكس لونه في أعيننا بعد أن يصيبنا مرض بوصفير”. أما أحد شباب المنطقة فقد تساءل في استنكار “واش هادي هي البلاد اللي كايخرج منها الذهب؟”. عن الزميلة هسبريس







تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.