الأحد 5 مايو 2024| آخر تحديث 1:41 11/27



قراءة في فكر الدكتور محمد عابد الجابري

 

كاتب مفكر مغربي راحل. ولد بالمغرب عام 1936م، وحصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة عام 1967، وعلى دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1970م من كلية الآداب بالرباط.
-يعمل حالياً أستاذاً للفلسفة والفكر العربي الإسلامي في كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط.
-له مجموعة مؤلفات، ومشاركات في الصحف والمجلات.
 -كاتب مفكر مغربي معاصر. ولد بالمغرب عام 1936م، وحصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة عام 1967، وعلى دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1970م من كلية الآداب بالرباط.
-كان يعمل أستاذاً للفلسفة والفكر العربي الإسلامي في كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط.
 
مؤلفاته :
1-أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب، 1973م.
2-مدخل إلى فلسفة العلوم –بيروت-دار الطليعة- 1982م.
3-من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية، 1977م.
4-نحن والتراث –المغرب- المركز الثقافي العربي 1983م .
5-تكوين العقل العربي –بيروت- مركز دراسات الوحدة العربية .
6-المنهاج التجريبي وتطور الفكر العلمي بيروت –دار الطليعة- 1982م.
7-فكر ابن خلدون، العصبية الدولة –المغرب- دار النشر المغربية – 1984م.
8-إشكاليات الفكر العربي المعاصر، 1986م.
9-وحدة المغرب العربي –بيروت – مركز دراسات الوحدة العربية –1987م.
10-التراث والحداثة: دراسات ومناقشات، 1991م.
11-الخطاب العربي المعاصر –بيروت- مركز دراسات الوحدة العربية – 1994م.
12-وجهة نظر: نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، 1992م.
13-المسألة الثقافية ، 1994م.
14-الديمقراطية وحقوق الإنسان ، 1994م.
15-مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب، 1995م.
16-المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، 1995م.
17-الدين والدولة وتطبيق الشريعة، 1996م.
18-المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية، 1996م .
19-قضايا في الفكر المعاصر، 1997م.
-أصدر الجابري مجلة (نقد وفكر)، وهي شهرية.
 
 
-قال الأستاذ أحمد عبد العزيز أبو عامر في مقال له عن الجابري نشره في المجلة العربية (العدد 165): (تمهيد: تعاني جامعاتنا العربية ضمن ما تعانيه من الضعف أن جل أساتذتها الذين تخرجوا من الجامعات الأجنبية وبخاصة في العلوم الإنسانية عادوا بتصورات أجنبية فعلاً تتنكر غالباً للأصول الإسلامية لفقدانهم الأسس الإسلامية الصحيحة، وفاقد الشيء لا يعطيه.
ولذا وجدناهم مختلفي المنطلقات الفكرية، ويمكن إجمالهم على النحو التالي:
1-الدعاة لمركسة الفكر العربي وأبرزهم عبد الله العروي .
2-الدعاة لعلمنة الفكر العربي وأبرزهم محمد أركون.
3-الدعاة لعقلنة الفكر العربي وأبرزهم محمد عابد الجابري، مدار المناقشة في هذه الحلقة وهو من المبشرين بما يسمى بالمذهب الانتقالي، والذين يزعمون أن العلم شيء والعقيدة شيء آخر.
ما حقيقة هؤلاء:
وهؤلاء الكتاب يزعمون أنهم يناقشون قضايا المجتمع العربي الإسلامي من منظور علمي مع أنهم في الحقيقة يحاولون عمداً هدم الإسلام من الداخل ويسمي الباحث القدير (د/يوسف نور عوض) هذا الاتجاه الجديد في علم الاجتماع. (اتجاه النقل المقصود به الهدم) ذلك أن معظم الكتاب العرب الذين بدأوا يستخدمون هذا المنهج، لم يحاولوا في الواقع نقد المنهج ذاته بل استخدموه بأقصى درجات التطرف من أجل تفتيت كيان الأمة الثقافي. تارة تحت اسم (سوسيولوجيا المعرفة) وأخرى تحت اسم (سوسيولوجيا النقد) () ومعظم الذين يعملون في هذه الاتجاهات الخطيرة قد عملوا في إطار التنظيمات الأيدلوجية المشبوهة وغرضهم إسقاط أفكارهم على الواقع الاجتماعي دون الدخول مباشرة في المواجهة، ونعود لصاحبنا الجابري.
نبذة عن حياته([4]) :
ولد عام 1936م في قرية (فكيك) المغربية على الحدود الجزائرية ودرس بها ثم غادرها إلى (الدار البيضاء) حيث انخرط في خلايا العمل الوطني في بداية الخمسينات، وفي عام 1958م انتقل إلى دمشق للحصول على الإجازة في الفلسفة. بعد أن حصل على البكالوريا كمرشح حر ولم يتم دراسته الجامعية وعاد للمغرب لينتسب إلى الجامعة المغربية الفتية. وفيها يكمل مشواره الأكاديمي، وفي 1964م يحصل على (الليسانس) في الفلسفة وفي عام 1967م نال الماجستير بعد مناقشة رسالته (منهجية الكتابات التاريخية المغربية) والتي عن طريقها اكتشف عالم الاجتماع المسلم (عبد الرحمن بن خلدون) حيث قرر أن يكون بحثه لنيل شهادة الدكتوراه عام 1971م (العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي). وهو الآن أستاذ الفلسفة والفكر العربي والإسلامي في كلية الآداب بجامعة الملك محمد الخامس بالرباط، وله العديد من الكتب من أشهرها: (نحن والتراث) و(نقد العقل العربي) وقد صدر في أجزاء ثلاثة هي (تكوين العقل العربي) و(بنية العقل العربي) و(العقل السياسي العربي) و(الخطاب العربي المعاصر) وغيرها. وقد شارك في العديد من المؤتمرات العلمية والثقافية وطرح بعض الآراء التي سيتم مناقشة بعض منها فيما بعد.
والملاحظ أن كثيراً من الكتاب المغاربة المشهورين اختطوا طريقاً فكرياً ينحو المنحى الفلسفي بما يسمونه (قراءات التراث) وهي اتجاهات شتى يمكن الرجوع لمعرفتها في كتاب (التراث والهوية) لعبد السلام بن عبد العالي الذي تطرق فيه إلى كل من العروي والخطيـبـي والجابري وغيرهم.
ومحمد عابد الجابري والحق يقال: إنه من أنزه هؤلاء الكتاب وإن كان عليه مآخذ سأوضحها فيما بعد، وهذا التعريف السريع به وبفكره ينطلق من عنوانه من ما يعرف بالبستمولوجيا وهي النظم المعرفية التي اشتهر في كتاباته عنها، في دراسته عن (نقد العقل العربي) وكيف انحدر إلى ما أسميه (بالهذرلوجيا)(5) وأعني به السقوط في الرأي، حينما عرض وجهة نظره في أزمة الخليج والتي هي أقرب ما تكون للهذر من التحليل العلمي الذي عرف به وكيف أنه ناقض نفسه في مفهومه للوحدة العربية والذي سبق أن أدلى به في عدة مقابلات صحفية كما سأوضحه إن شاء الله.  
قراءات في التراث:
للجابري صلة قوية بدراسة التراث العربي الإسلامي ومن خلال قراءاته تلك يعرف بفكره وطروحاته حول التراث والتحديث، وقد وضع منطلقاته الفكرية هذه في مدخل كتابه (نحن والتراث).. فحينما ذكر اتجاهات الفكر العربي المعاصر في دراسة التراث وضعها في ثلاث فئات (السلفية الدينية) و(القراءة الاستشراقية) و(القراءة اليسارية) وقال: إن تلك القراءات كلها (سلفية) وإن اختلفت منطلقاتها. وإنما الفرق بينها هو نوع السلف الذي يتحصن به كل تيار، فالقراءة الاستشراقية سلفها مفكرو أوروبا واليسارية سلفها الماركسية.. ومن خلال إطلاعي على بعض من كتب عن الجابري وجدت أن ما ذكره المفكر المغربي (سعيد بن سعيد) عن ملامح منهجه الفكري هو أقرب ما يكون له، حيث وضع منهج الجابري متمثلاً في ثلاثة أبعاد.
1-بين درسين اثنين درس الفلسفة الهيجلية الماركسية ودرس الابستمولوجيا التكوينية كما نجدها عند (جان بياجي) من جهة ثانية.
2-الدرس البنيوي حيث يأخذ فيه من البنيويين وعلى وجه الخصوص من الفرنسيين (التوسر) و(فوكو) بصفة خاصة.
3-البعد الابستمولوجي الفرنسي ونجد تأثره بالمفكر الفرنسي (باشلار) أكثر من غيره(6)، ولقد صاغ الجابري في هذه الأخلاط المتعددة قراءاته للتراث والتي سنرى نموذجاً لها، ومما يتميز به الجابري أنه لم يصادم الإسلام مباشرة، ولا يرى التغيير في ترك التراث كالعروي مثلاً لكن له آراء عجيبة وغريبة، ومما جاء في (بنية العقل العربي) قوله: (اللغة والشريعة والعقيدة والسياسة في الماضي والحاضر تلك هي العناصر الرئيسية التي تتكون منها المرجعية التراثية التي قلنا: إنه لا سبيل إلى تجديد العقل العربي إلا بالتحرر منها) !!
ماذا قال في دراسته عن نقد العقل العربي:
هذه الدراسة صدرت في أجزاء ثلاثة سبق ذكرها وهي دراسة مركزة وتحليلية للثقافة العربية والإسلامية تحتاج إلى كبير تأمل ومراجعة حتى يستوعبها القارئ لها، وسأقف معك أخي القارئ في الجزء الأول منها وهو (تكوين العقل العربي) وقد ذكر في كتابه (الخطاب العربي المعاصر) والذي يعتبر تمهيداً لهذه الدراسة، ذكر أن الذاتية العربية الراهنة تفقد استقلالها لكونها تنطلق من مرجعيتين متعارضتين منفصلتين عنها إحداها (تنتمي إلى الماضي العربي الإسلامي) والأخرى تنتمي إلى (الحاضر والمستقبل الأوروبي). وسبيل تحقيق الذات العربية هو التحرر من ذلك النموذج (الإسلامي والغربي) !!
تكوين العقل العربي:
تتبع الجابري مراحل تكوين الثقافة الإسلامية التي دونت وصنفت وأعيد بناؤها خلال عصر التدوين وامتداداته فوجد نفسه أمام ممارسة نوع من التاريخ للثقافة العربية يقوم على إعادة ترتيب العلاقات بين أجزائها، فبدلاً من تصنيف ضروب المعرفة إلى علوم نقلية وأخرى عقلية.. أدى به رصد الأساس (البستمولوجي) لإنتاج المعرفة داخل الثقافة العربية إلى تصنيف آخر لا يؤخذ فيه بعين الاعتبار سوى البنية الداخلية للمعرفة (آلياتها ووسائلها ومفاهيمها الأساسية) حيث وضعها في ثلاث مجموعات:
1-علوم البيان: من نحو وفقه وعلم كلام وبلاغة ويؤسسها نظام معرفي واحد يعتد قياس الغائب على الشاهد كمنهاج في إنتاج المعرفة سماه (المعقول الديني العربي).
2-علوم العرفان: تصوف وفلسفة وباطنية وسحر وتنجيم ويؤسسها نظام معرفي يقوم على (الكشف والوصال) و(التجاذب والتدافع) كمنهاج وسماه (اللامعقول العقلي).
3-علوم البرهان: من منطق ورياضيات وطبيعيات وإلهيات ويؤسسها نظام معرفي واحد يقوم على الملاحظة التجريبية والاستنتاج العقلي كمنهج وسماه (المعقول العقلي) وقال بأن العقل العربي إنما تكون من خلال تشييده لعلوم البيان التي أبدع فيها أيما إبداع، فإن كانت الفلسفة معجزة اليونان فإن العلوم العربية هي معجزة العرب!! وإذا كانت معجزة اليونان قد جعلتهم يتعاملون مع الكون لمحاولة فهمه فإن معجزة العرب قد جعلتهم يتعاملون مع النص وينغلقون من داخله بعد أن أغلقوا المعرفة التي تنتمي إليه. فماذا يا ترى يريد قوله بهذا الكلام الملفوف؟
وهكذا صار يحلل البقية على ذلك المنوال، ثم ذكر أن تأخر المسلمين راجع لكون العقل قدم استقالته استناداً إلى المشروعية الدينية، ففي حين بدأ الأوروبيون يتقدمون باستيقاظ العقل بينما المسلمون في صراع حول الخلافة وصراع الفرق وأن تقدم غير المسلمين حينما فصل الدين عن الدولة.
وهكذا يدس السم في الدسم بطريق غير مباشر ولذا صدق د/يوسف نور عوض(7) بقوله عن هذا الكتاب: إنه نوع من الكتب التي يوهم القارئ بأنه يتحدث في أمور خطيرة ويتناولها بطريق علمية وموضوعية ولكن المتأمل فيه يدرك أن الكتاب فارغ المضمون وأنه مليء بالمغالطات والآراء غير العلمية بعكس الدعاية الكبيرة له، ومن ملاحظاته ما يلي:
1-أن السياسة وحدها ليست هي السبب الجوهري في تخلف المسلمين لأنه ليس هناك مجتمع في العالم لا يهتم بالسياسة فضلاً عن أن علومنا الإسلامية هي الأساس للنهضة الأوروبية كما اعترف بذلك منصفو الغرب أنفسهم كجوستاف لوبون في (حضارة العرب) وأن الاختلاف في التفاوت بين أوروبا والعالم العربي ليس في طبيعة العقل ذاتها وإنما لكون أوروبا اكتشفت الطاقة قبلنا واستطاعت عن طريق استثمار ثرواتها أن تنمي نهضتها الصناعية، واستطاعت عن طريق الاستعمار أن تثبت أركان نفوذها وقوتها.
2-إن الجابري يموه بمفهومي النص والبيان وإن ما يعنيه هو القرآن الكريم إذ يريد أن يقول: إن الثقافة الإسلامية كلها قد انحصرت في معرفة النص القرآني وهكذا أصبحت من وجهة نظره معرفة مغلقة، ولم يدع أحد حتى الآن في الغرب أن دراسة اللغة مثلاً قد أصبحت غير مجدية، ودليلنا تطور علم اللغة الحديث لهم بطريقة مذهلة.
3-وحينما قال الجابري: إن العقل البياني العربي استقال من خلال ما يعرف بالتصوف السيئ أكد د. يوسف بأنه لا يعترف بأن التيار الصوفي كان في أي مرحلة من مراحله قوياً بحيث يحجب الشريعة ويكون بديلاً عنها بحيث نصف العقل الإسلامي بأنه عقل مستقيل.
4-دعواه أن العلم العربي ظل خارج الحياة ولم يدخل في احتكاك مع الدين كما هو الشأن في الغرب ولم يبرر ذلك بموقف الإسلام الإيجابي من العلم وإنما برره بسلبية العرب واهتمامهم بالسياسة أكثر من اهتمامهم بالعلم. وأقول: كيف تقدم العلم العربي الإسلامي في عصور ازدهاره مع الاهتمام الكبير بالسياسة آنذاك والصراع حولها؟ لكن الحقيقة أن العلم والعلماء لم تتح لهم من الإمكانات والدعم ما كان موجوداً آنذاك، وفي نظري أن تقسيمه الجديد عقد العلم وفروعه وجعله مستعصياً عن الفهم عند الآخرين، ثم كيف تقدم أسلافنا في التقسيم التقليدي وكانوا غرة في جبين الزمان؟! فنهضتنا وتقدمنا ليس في تقسيم للعلم جديد بدلاً للتقسيم القديم فحسب. بل لا بد من إعادة النظر في المناهج والتوجهات والخطط التنموية والعمل الجاد من كافة فئات الأمة بعد وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
من آرائه العجيبة:
أولاً: في الوقت الذي يقول فيه: إن تطبيق الشريعة مبدأ لا يحتمل النقاش كمبدأ يقول: إن الشريعة في الإسلام مجال مفتوح وأن هناك مبادئ وجوانب معينة وتطبيقها فيه مجال للاجتهاد، ثم يقول: إن (حد الزنا) كان من الممكن تطبيقه في مجتمع البادية أما المجتمع الجديد فلا يمكن تطبيقه كما اشترط الفقهاء(8) ولا شك فهذه الدعوى ساقطة من أساسها؛ لأن إجماع العلماء بأنه لا اجتهاد مع النص معروف ولا خلاف حوله، وتبقى الملابسات والظروف والتحديد العقلي، وهذا ما يقرره العلماء والجابري ليس منهم، والإسلام دين شامل لكل زمان ومكان وتعاليمه السماوية لم تكن مؤقتة كما يزعم هؤلاء بلا علم (أأنتم أعلم أم الله).
ثانياً: يقول في إحدى المقابلات معه (المستقبل العربي عدد 45/5): إن التمزق الذي يعيشه عالمنا العربي ليس في الحقيقة فشلاً لمفهوم القومية العربية كبديل عن المجتمع القديم، بل نتيجة لغياب الديمقراطية عن مشروع القومية العربية!!
 والحقيقة أن مأساة الأمة العربية في مشاريع الوحدة الكثيرة ليس لغياب الديمقراطية فحسب بل لكونها لم تتم على الأسس المفروضة المنطلقة من الإسلام ذاته، ولو آمن المتحدون بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة لما حصلت أي خلافات أو تعثر. لكن مشكلة المشاريع الوحدوية أنها قامت لمصالح ومن ورائها ذوو اتجاهات حزبية متناقضة لا يأمن بعضهم جانب بعض فما تلبث إلا أن تسقط بين عشية وضحاها، إن الأمة بحاجة إلى منطلقات إيمانية وإلى معالم شورية وحينها لن يحدث ما يحصل من تشرذم وسقوط، فهل نعي ذلك أم على قلوب أقفالها؟ وليس هناك أكبر دليل على سقوط (القومية) من واقعنا اليوم وكيف أصبحت المفاهيم القومية مصلحية ونفعية ولا تمت للمصالح العليا للأمة بصلة([9]).
ثالثاً: في حوار ثقافي بين الجابري وحسن حنفي على صفحات مجلة اليوم السابع (225/5) حول ما دعته المجلة (بالتخلي عن منطق الفرقة الناجية) تطرق الجابري إلى حديث (افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) وذكر بأن حصر الفرق الضالة كما جاء في الحديث وكما يفعل علماء الشرع وتعيين الطائفة الناجية عمل فيه تحكم وتعسف لا يقبله العقل ولا الشرع مستنداً إلى ما ورد عن رأي لبعض علماء المغرب والأندلس.. والحقيقة أن الحديث صحيح كما أخرجه علماء الحديث قديماً وحديثاً وقد جمع الباحث (سليم الهلالي) طرق الحديث ورواياته وتقويم علماء الجرح والتعديل له وبيان صحته والرد على بعض المعاصرين في طعنهم فيه وتأويل معناه بدون فهم في رسالة له بعنوان (نصح الأمة في فهم أحاديث افتراق الأمة) وختم الرسالة بست حقائق علمية في فقه الحديث جديرة بالإطلاع أكد فيها على وجود الطائفة المنصورة القائمة على نهج النبي صلى الله عليه وسلم متبعة سنته حتى يأتي أمر الله بالنصر والتأييد، وقد فصل الباحث الهلالي أوصاف هذه الطائفة في كتابه (اللآلئ المنثورة بأوصاف الطائفة المنصورة).
مقالته في الهذرلوجيا:
قلت: إن الهذرلوجيا أعني بها الكلام غير الموزون وغير القائم على أسس علمية وقد طرح الجابري رأيه حيال أزمة الخليج في (مجلة اليوم السابع) حيث يرى أن خلاف العقيدة (العراق) مع (الغنيمة) الكويت وضع عربي متسلسل عن صراع التكوينات العربية والاشتراكية في الستينات مع التقليدية والأمبريالية. انكمشت في الماضي زمن تطاول الاشتراكية ثم تجاسرت على الخروج فكان الصدام الذي جعل البترول الكويتي غنيمة يستحقها العراق نتيجة خوضه الحروب القومية!! فأدى تراكم الديون إلى بحثه عن حقه في الغنيمة.. وأتساءل مع الأستاذ (تركي السديري) (9) في تعليقه على الجابري فيما ذكر: أي أمل لنا في فكر من هذا النوع من الكتاب الذي يتجاهل تشريد شعب بكامله وسطو على حقوق غيره ثم يسمي ذلك بأنه رد فعل طبيعي، متحللاً تماماً من صفته كمفكر ليتحول إلى كاتب إعلامي.
والجابري ينطلق في توهمه هذا على ما بنى عليه كتابه (العقل السياسي العربي) حينما قال: إن القبيلة والغنيمة والعقيدة محدودات ثلاثة حكمت العقل السياسي العربي الماضي وما زالت تحكمه، وبعد أن احتككنا بالحضارة المعاصرة وظهرت الأيدلوجيات النهضوية من سلفية وعلمانية وليبرالية وقومية واشتراكية.. تعرضت تلك المحدودات إلى نوع من القمع والإبعاد فشكلت المكبوت وبعدما تعرضنا له من نكسات واحباطات فتحت الباب على مصراعيه لعودة المكبوت وأن المطلوب هو تجديد مهام الفكر العربي اليوم بتجديد العقل السياسي ويتمثل في رأيه فيما يلي:
1-تحويل القبيلة إلى مجتمع منظم مدنياً وسياسياً واجتماعياً.
2-تحويل الغنيمة إلى اقتصاد (ضريبة) أو اقتصاد منتج .
3-تحويل العقيدة إلى مجرد رأي.. ومن ثم التعامل بعقل اجتهادي ونقدي.
والذي يعرفه الجميع أن تلك التحولات الجديدة حصلت في كثير من أنحاء العالم العربي بالفعل، لكن السؤال المهم على أي أساس ينظم المجتمع المنشود. وعلى أي أساس يقوم الاجتهاد النقدي؟! لقد جربت الأمة العديد من المناهج الكثيرة من قومية واشتراكية ورأسمالية وما زالت تدور في حلقة مفرغة ويبقى أن تجرب الإسلام الفعال الإسلام الحق القائم على الشورى. لا الإسلام الانتقالي الذي يريده (الجابري) وأمثاله.. ومما يؤسف له أن الجابري نسي أو تناسى جوابه عن الطريقة المعقولة للوحدة العربية في مقابلة معه في صحيفة القبس الكويتية العدد (5884) الصادر في 29/9/1988م حينما قال: (والوحدة في أية حال لا يمكن أن تتم أو تكون دون ديمقراطية، ودون تراضي الدول العربية المرشحة لأن تتحد إما كمجموعات إقليمية أو كوطن عربي ككل. لا طريق آخر للوحدة العربية إلا طريق التراضي الديمقراطي بين هذه الدول، إلى أن يقول.. وبالتالي ستكون الوحدة عبارة عن مراحل وتعاون متدرج وليس وحدة شاملة من خارج المحيط..) أي دعوى تلك التي زعمها في رأيه بأزمة الخليج وقد قال ما قال وناقض رأيه السابق في الموضوع بلا مبرر معقول؟
حقاً إن الجابري لم يقدم إضافة مفيدة ولكنه خسر نفسه كمفكر) انتهى كلام الأستاذ أحمد أبو عامر –وفقه الله-.
وقال الأستاذ عبد العزيز الوهيبي في مقال له بعنوان (قراءة في فكر الدكتور محمد عابد الجابري) نشره في مجلة البيان (العدد 71) : (هل يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض.. عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته، ومفاهيمه، وتصوراته ورؤآه… ؟ !
ثم لماذا لم تتطور أدوات المعرفة (مفاهيم، مناهج، رؤى..) في الثقافة العربية (الإسلامية) خلال نهضتها في (القرون الوسطى) إلى ما يجعلها قادرة على إنجاز نهضة فكرية وعلمية مطردة التقدم، على غرار ما حدث في أوربا ابتداءً من القرن الخامس عشر (الميلادي)؟!
تلك هي الإشكالية التي شغلت ذهن المفكر المغربي د/ محمد عابد الجابري، ودفعته إلى إصدار دراساته المتنوعة حول كثير من قضايا الفكر الإسلامي التي منها : (نحن والتراث) صدر عام 1980هـ و(الخطاب العربي المعاصر) صدر عام 1982م و(نقد العقل العربي) الذي بدأ صدور أجزائه عام 1986م. ولعل أهم هذه الدراسات وأكثرها ثراءً: الدراسة الأخيرة التي جاءت في ثلاثة أجزاء، كان الأول منها عن (تكوين العقل العربي)، والجزء الثاني عن (بنية العقل العربي) والجزء الثالث عن (العقل السياسي) .
والجزء الأول والثاني، أكثر أهمية في نظري من الجزء الثالث الذي درس نشأة الدولة في الإسلام، وتطورها… وحاول المؤلف فيه إبراز ما أسماه المحددات التي بقيت تحكم هذه الدولة في مختلف مراحل سيرتها الطويلة، هذه المحددات حصرها المؤلف من وجهة نظره في ثلاثة جوانب لا تتجاوزها وهي: العقيدة، والقبيلة، والغنيمة… وأحسب أنه لا يزال في هذا الموضوع العقل السياسي زيادة لمستزيد ولم يكن تناول المؤلف لهذا الموضوع كافياً ولا شافياً.
لاحظ الجابري، عندما درس (بينة العقل العربي) أن التصنيف الشائع القديم للعلوم الإسلامية بتقسيمها إلى علوم نقلية وأخرى عقلية، أو علوم دين وعلوم لغة، أو علوم العرب وعلوم العجم، لاحظ أن هذه التصنيفات لا تقوم إلا على اعتبار المظاهر الخارجية وحدها، والتي تذكرنا بالتصنيف القديم للحيوانات حسب مظاهرها الخارجية وحدها: إلى حيوانات برية ومائية وبرمائية، لكننا بحاجة إلى تصنيف جديد للعلوم الإسلامية كما ظهر التصنيف الجديد للحيوانات إلى فقريات ولا فقريات؛ الأمر الذي فتح أمام علم البيولوجيا آفاقاً جديدة خصبة وعميقة.
لقد كان عمل الجابري في هذا البحث (نقد العقل العربي) محاولة للكشف عن هذا التصنيف الجديد، محاولة لدراسة البنية الداخلية للفكر الإسلامي، وإعادة التصنيف على أساس لا يؤخذ فيه بعين الاعتبار سوى البنية الداخلية للمعرفة: آلياتها ووسائلها ومفاهيمها الأساسية.
من هذا المنطلق جاء التقسيم الجديد عند المؤلف للعلوم الإسلامية وتيارات التفكير الإسلامي إلى ثلاثة علوم أساسية هي:
-علوم البيان: وتشمل الفقه وأصوله وعلم الكلام وعلوم اللغة.
-علوم البرهان: وتشمل الفلسفة وخصوصاً فلسفة أرسطو !
-علوم العرفان: وتشمل التشيع والتصوف والفلسفة الإشراقية.
كان الإمام الشافعي هو المؤسس للمنهج في العلوم البيانية وكتابه (الرسالة) يعتبر (قواعد المنهج) للفكر الإسلامي، كما وضع ديكارت (قواعد المنهج) للفكر الفرنسي والأوروبي الحديث، وقد لخص رحمه الله تلك القواعد بقوله: (ليس لأحد أبداً أن يقول في شيء حل ولا حرم إلا من جهة العلم، وجهة العلم: الخبر في الكتاب أو السنة، أو الإجماع، أو القياس (الرسالة: 39) فجهة العلم بناء على هذا النص محصورة في أحد سبيلين: النص (من كتاب أو سنة أو إجماع) أو القياس (الذي هو إلحاق فرع بأصل لاتحادهما في العلة) فقياس التمثيل إذن هو الآلية المفضلة عند الفقهاء، وهو الأسلوب الذي يحكم منهجهم في التفكير.. وعن الفقهاء انتقل المنهج إلى المتكلمين وعلوم النحو والبلاغة مُشكّلاً بذلك مدرسة البيانيين.
أما علوم العرفان وهي العلوم التي يقدم فيها العقل استقالته فتبدأ مع بداية الترجمة، عندما أمر خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85هـ) بترجمة كتب الكيمياء، والتنجيم، وكتب الطب اليونانية والقبطية، تلك الكتب التي تقدم رؤية هرمسية غنوصية للكون والإنسان، ثم كان لجابر دور في نشر هذه النظرة الهرمسية، وشاركه في مثل هذا الدور الطبيب الرازي، أما في المجال العقائدي فقد كان الشيعة أول من تهرمس في الإسلام، ولم تسلم الجهمية هي الأخرى من هذا التلوث وكذا الصوفية، ثم جاء بعد ذلك دور التيارات الباطنية ممثلة في إخوان الصفا وفلسفة ابن سيناء، التي تزعمت التيارات الباطنية الإشراقية، ثم غدت بعد ذلك طابعاً عاماً لكثير من التيارات المنحرفة التي كان مدار التفكير فيها والمنهج المفضل للوصول إلى المعرفة قائماً على أساس الكشف والعرفان والإشراق الذوقي الباطني، وبخلاف كثير من الباحثين يرى المؤلف أن هذا الاتجاه لم يكن رد فعل ضد تشدد الفقهاء، ولا ضد جفاف الاتجاه العقلي عند المتكلمين، كلا، لقد ظهر هذا النظام قبل أن تتطور تشريعات الفقهاء، ونظريات المتكلمين إلى ما يستوجب قيام رد فعل من هذا القبيل، لقد كان هذا التيار نتيجة لمحاولة عناصر معادية للفكر الإسلامي وللدولة الإسلامية قادته عناصر من الزنادقة وأتباع الديانات الوثنية؛ من أجل تقويض البناء الفكري والسياسي للدولة الإسلامية.
هذا عن البيان والعرفان… أما عن البرهان فيذكر المؤلف تبعاً لما يراه المستشرق كارل بروكلمان أن المأمون (198-218هـ) إنما أمر بترجمة الفلسفة اليونانية لمواجهة العرفان المانوي الغنوصي الذي اعتمده الشيعة والزنادقة لمواجهة الدولة الإسلامية، لقد كان الكندي (185-252هـ) هو أول فيلسوف عربي حيث أكد على أن المعرفة إنما تكون حسية أو عقلية أو إلهية أداتها الرسل المبلغة عن الله، وهو بذلك يرفض العرفان الشيعي الصوفي، ثم جاء بعده الفارابي (260-339هـ) الذي حاول (الجمع بين الحكيمين)، أرسطو وأفلاطون محاولاً (التوفيق) بين تيارات الفلسفة اليونانية المختلفة، متوصلاً بذلك إلى أن العرفان إنما هو ثمرة للبرهان.
لقد بقيت مدرسة بغداد كما يرى المؤلف من المأمون وحتى الخليفة القادر (381-422هـ) مركزاً علمياً مخلصاً لاستراتيجية المأمون الثقافية القائمة على الارتكاز على أرسطو ومنطقه وعلومه في الحرب ضد الإسماعيلية العرفانية الهرمسية، ثم تسلم بعد ذلك ابن رشد الراية عنهم، وهو المفكر الذي احتفظ بصورة فلسفة أرسطو نقية كما جاءت عنه، رافضاً إضافات الفارابي وابن سينا إلى هذه الفلسفة. هكذا تشكلت الدوائر الثلاث البيانية والعرفانية والبرهانية في الفكر الإسلامي، لكنها لم تدم مستقلة بعضها عن بعض طوال الوقت، لقد حصل تدريجياً تداخل بين هذه التيارات… فلقد حاول ابن سينا تأسيس (العرفان) على (البرهان)، وذلك بالبحث في الفلسفة عن أسانيد للرؤية الهرمسية للكون والإنسان وعلاقتهما بالإله.
كما حاول الغزالي تأسيس (البيان) على (العرفان)، وذلك بالتشكيك في كل قيمة للمعرفة الحسية والتجريبية والعقلية، متوصلاً بذلك إلى تفضيل طريقة (الكشف) والإلهام باعتبارها طريق اليقين الوحيد.
بينما حاول ابن حزم تأسيس (البيان) على (البرهان) وذلك برفض قياس الفقهاء التمثيلي، ومحاولة اعتقاد البرهان المنطقي الأرسطي المبني على مقدمتين ينتج عنهما نتيجة ضرورية يقينية، وتابعه على ذلك الشاطبي بعض المتابعة في محاولته لتأسيس فقه المقاصد.
أما ابن رشد، فقد سن محاولات الخلط بين هذه الحقول، ورأى أن الشريعة صنو الحكمة وأختها الرضيعة، وأن لا سبيل للبرهنة من أحدهما على الأخرى.. وهي نتيجة توصل إليها أبو سليمان المنطقي من قبل، لكن كان لابن رشد فضل بلورتها وتوضيحها.
المؤسف كما يرى الجابري أن محاولة ابن رشد جاءت متأخرة فلم تلق أذناً صاغية ممن جاء بعده من المفكرين، بل كان النصر (للعقل المستقيل) في الحركة الصوفية والشيعية، كما كان النصر حليفاً لاختلاط الأنهر عند المتكلمين الذي ظهر بظهور الرازي حيث قام تلميذه (الإيجي) بعد ذلك بوضع الصورة النهائية لعلم الكلام في كتابه (المواقف) حيث يختلط فيه (البيان) بـ(البرهان) بـ(العرفان) وبذلك ظهرت أزمة الأسس في الفكر الإسلامي، وتشقي الحقيقة ثم ساد بعد ذلك الجمود والتقليد، وتحريم الاجتهاد والنظر العقلي.
هذا عرض سريع لموضوع كتابي (بنية العقل العربي) و(تكوين العقل العربي) نأتي بعده إلى سؤال مهم: تُرى ما هي المدرسة التي يتبناها الجابري بين هذه المدارس المختلفة، والتي يبشر بها ويدعو إليها؟! ثم ما هو المقياس الذي اعتمده في قبول أو رفض هذه التيارات، وما هي الخلفيات الفكرية والاعتقادية التي كانت تحكم نظرته نحو مختلف المدارس الفكرية…؟!
قبل الشروع في الإجابة على هذه الأسئلة، لابد من الإشارة إلى ظاهرة لا تخفى على القارئ لمختلف الإصدارات التي كتبها الجابري؛ ألا وهي رغبته الدائمة في عدم الكشف عن توجهاته الفكرية بشكل سافر.. اتضح هذا جلياً في حواره مع (حسن حنفي) في كتاب (حوار المشرق والمغرب) حيث سود صفحات في بيان رغبة القراء في كشف القناع عن الخلفيات الأيديولوجية التي تحكم من يقرؤون له، ومع ذلك فلم يحدد توجهاته بوضوح..!!
الذي يظهر لي أن حرص الكاتب على عدم إظهار توجهه الفكري يرجع إلى أحد سببين هما:
-إما أنه لا يزال في مرحلة التأمل والبحث والنظر، فلم يحدد بعد توجهاته الفكرية.
-أو أن الباحث يرغب في نشر إنتاجه الفكري بين مختلف الأوساط دون عوائق تصنيفية تلحق به الضرر عند من لا يوافق على توجهه الفكري.
على أي حال، فإنه يمكن من خلال التتبع لمختلف دراساته تبين خطوط رئيسية في خياراته الفكرية نشير إلى شيء منها هاهنا :
بادئ ذي بدء، لا يخفي الكاتب انحيازه للعقلانية حيث يقول:
(نحن نصدر عن موقف نقدي ينشد التغيير، من التحرك من موقع أيديولوجي واعٍ، أي لابد من الصدور عن موقف تاريخاني؟ ، موقف يطمح ليس فقط في اكتساب معرفة صحيحة بما كان، بل أيضاً إلى المساهمة في صنع ما يتبقى أن يكون، وهو بالنسبة للمجال الذي نتحرك فيه: الدفع بالفكر العربي في اتجاه العقلنة، اتجاه تصفية الحساب مع ركام –ولا نقول رواسب- اللامعقول في بنيته.
(تكوين العقل العربي: 52).. (لأن موضوعنا هو العقل، ولأن قضيتنا التي ننحاز لها هي العقلانية) (التكوين: ص7).
تبني العقلانية، والدفاع عنها، والتنويه برموزها كان هدف الجابري الذي لا يخفيه في عامة دراساته التي أصدرها.. لكن العقلانية بأي معنى…؟!
إنه لا يوجد صراحة من يعلن الحرب على العقل والعقلانية(10) لكن الاختلاف يظهر عندما يتحدد المقصود بالعقلانية.. فما هي يا ترى العقلانية التي يدعو إليها الباحث، وينافح عنها..؟ من خلال الرموز الذين دافع عنهم الجابري يمكن تلمس ملامح تلك العقلانية، وسماتها الأساسية.
لقد عرض الباحث فكر أرسطو في (بنية العقل العربي) (ص 384) دون أن يتحفظ على شيء مما جاء فيه، كما اعتبر الفارابي الذي يسمى (المعلم الثاني) اعتبره هو الذي أعاد تأسيس العقلانية في الإسلام، نظراً لكونه أول من درس المنطق الصوري كاملاً، وقد تغافل الباحث عن الجوانب الغنوصية في فكره ولم يعطها وزنها الذي تستحقه، نظراً لأنه كما يقول جعل (العرفان) ينتج عن (البرهان)، كما تبنى هجوم ابن حزم على القياس باعتباره منهجاً في البحث لا يفضي إلى اليقين، واعتبر المنهجية الظاهرية الحزمية في الأصول أمتن من منهجية البيانيين وأقوم، وكذا أعجب بمنهجية الشاطبي في الموافقات، حيث بنى الأصول على المقاصد التي تعرف باستقراء أدلة الشرع..
لكن الشخصية الإسلامية التي تحتل قيمة لا منازع لها عند الجابري هي شخصية ابن رشد.. إن الخطاب الرشدي يبنى كله على النظر إلى الدين والفلسفة كبناءين مستقلين، يجب أن يبحث عن الصدق فيهما داخل كل منهما وليس خارجه، والصدق المطلوب هو صدق الاستدلال، وليس صدق المقدمات، ذلك أن المقدمات في الدين كما في الفلسفة، أصول موضوعة يجب التسليم بها دون برهان: فإذا كانت الصنائع البرهانية، في مبادئها المصادرات والأصول الموضوعة، فكم بالحري أن يكون ذلك في الشرائع المأخوذة من الوحي والعقل. (تهافت التهافت 2/869)، ولذلك (فإن الحكماء من الفلاسفة لا يجوز عندهم التكلم ولا الجدال في مبادئ الشرائع، وذلك أنه لما كانت لكل صناعة مبادئ، وواجب على الناظر في تلك الصناعة أن يسلم لمبادئها، ولا يتعرض لها بنفي ولا إبطال؛ كانت الصناعة العملية الشرعية أحرى بذلك..) (التهافت 2/791).
علام تدل هذه الكلمات؟! اعتبار الشريعة نسقاً مغلقاً لا يمكن الاستدلال عليه من خارجه؛ ألا يعني هذا أن الدين تسليم دون استدلال؟! وإذا صح هذا فكيف يمكن التمييز بين الدين الصحيح والزائف؟! ألا تحمل هذه الكلمات بذوراً علمانية خطيرة؟!
-يعلق الجابري على منهج ابن رشد بقوله: (كانت الرشدية قادرة على طرق آفاق جديدة تماماً، وهذا ما حدث بالفعل، ولكن في أوروبا حيث انتقلت وليس في العالم العربي حيث اختنقت في مهدها، ولم يتردد لصيحتها الأولى صيحة الميلاد أي صدى إلى اليوم..) (بنية العقل العربي: ص323) أي صدى تردد في أوروبا، إنه الصدى الذي تبنى العلمانية منهاجاً، وجعل من الدين مواضعات اجتماعية وأخلاقية خاصة، فمن تبنى العلمانية منهاجاً وجعل من الدين مواضعات اجتماعية وأخلاقية خاصة، فمن شاء أن يلتزم بها فله ذلك ومن لم يشأ فلا جناح عليه !! أما أن يتدخل الدين في صياغة المنهج السياسي أو الاقتصادي، أو العلاقات الخارجية، فكلا، ليس ذلك للدين وإنما هو للعقل البشري المجرد..!!
هل يريد الجابري هذه النتيجة..؟! من العدل أن نقول إنه لم يصرح بهذا في هذه الكتب…لكن القارئ بسوء نية يمكنه أن يفهم ذلك..
 
ملاحظات ومراجعات:
رغم الجهد الضخم الذي بذله الجابري في إعداد هذا المشروع الفكري مستفيداً في ذلك ممن سبقه من الباحثين، مسلمين كانوا أو مستشرقين أو ماركسيين.. الخ؛ فإن المرء لا يسعه إلا أن يتبنى موقفاً مغايراً لما تبناه المؤلف في كثير من المواضع في تلك الكتابات، نقف في هذا العرض عند بعض منها:
من الملفت للنظر في هذا المشروع النقدي، أنه في غمرة حماسته للفلسفة الأرسطية، قد غض الطرف عن النقد الجوهري المتين الموجه قديماً وحديثاً لهذه الفلسفة، سواء أكان ذلك في المنطق الذي يحكمها أو في النتائج والرؤية التي تنتج عنها، حتى أن العلم الحديث لم يتمكن من تحقيق فتوحاته العظيمة حتى تحرر من أسرها، والمؤلف خبير بالمنهج العلمي الحديث في البحث والتفكير، حيث وضع فيه كتاباً في جزأين تحت عنوان (فلسفة العلوم)، ظهر له من خلالهما البون الشاسع بين التفكير العلمي الحديث والمنهج الأرسطي القاصر فلماذا يا تُرى جعل الباحث المنهج الأرسطي معياراً للحكم على فكر هذا العالم أو ذاك بالتقدم أو التخلف، بالعقلانية أو عدمها؟!
حقيقة.. لا يظهر لي سبب واضح وراء هذه الحماسة والاندفاع.
-رغم أن الجابري لم يبد عداءً نحو منهج البيانيين (فقهاء وأصوليين ولغويين) فهو في ذات الوقت لم يحدد موقفاً واضحاً من القضايا التي أثاروها ولم يبد انحيازاً مع تلك الطروحات أو ضدها، وهو موقف غريب غير مبرر. ومن المسائل ذات الدلالة في هذا الموضوع أن ابن تيمية رغم مساهمته الثرية والعميقة في كل القضايا التي أثارها المؤلف في كتاباته، لم يلق أي اهتمام يستحق الذكر مقارنة بغيره من الشخصيات التي برزت في علم الأصول أو علم الكلام أو الفلسفة… الخ.
ورغم عدم تحيزنا للأشخاص، فإنه يمكن اعتبار هذه الظاهرة ذات دلالة لا تخفى، حيث أن ابن تيمية يشكل ربما الصورة الأخرى لابن رشد… فرغم إطلاعه الواسع على الفلسفة بمختلف تياراتها، ودخوله في جدل عميق مع مختلف طروحاتها، إلا أنه ظل على إيمان عميق لا يتزعزع بأن العقل لا يعارض النقل ولا يُضادّه، وأن أكمل مناهج التفكير العقلي، إنما هي تلك التي دعى إليها النقل وحث عليها.
فهو بخلاف ابن رشد يؤمن بأن مبادئ الشرائع يمكن فحصها والاستدلال لها بالعقل، كما أن مقدمات الفلسفة هي الأخرى تخضع للفحص العقلي والنقلي؛ وذلك هو الموقف العلمي الصحيح، وإلا كيف لمسلم أن يتورط بالقول بأزلية العالم؟، وذلك مخالف لمسلمة قطعية من مسلمات الدين وهي الاعتقاد بأن هذا العالم مخلوق بعد أن لم يكن؟!
كيف لمفكر يحترم نفسه أن يسلم بالرؤية الفلكية الأرسطية، ويبقى في ذات الوقت محترماً للنص الشرعي مؤمناً بما فيه، بحجة أن هذه مقدمة فلسفية وتلك مقدمة كلامية شرعية؟!
أليس في ذلك تغييباً مقصوداً للوعي؟! وعودة لا تخفى إلى التناقض؟!
-أشار المؤلف إلى أن منهجية البيانيين المفضلة هي الاستدلال بالشاهد على الغائب، وهي دعوى غير مسلم بها، فلقد كان للأصوليين المتقدميين كلام في الاستحسان، والمصالح، والاستقراء، والاستنباط، وهي طرائق في الفهم والاستدلال مغايرة لقياس الشاهد على الغائب.
كما أن للعلماء المسلمين في مجال العلوم الطبيعية، منهجياً تجريبياً متقدماً حتى أن المسلمين يعتبرون بحق وبشهادة الباحثين الغربيين أنفسهم سباقين إلى اكتشاف المنهج التجريبي، وعنهم أخذته أوروبا في عصر النهضة، وهي قضية لم يعطها الكاتب حقها من الاهتمام والتقدير الكافيين.
هذه مسألة…. والمسألة الأخرى في هذا الصدد حول قيمة المنهج في الوصول إلى الحقيقة… إن التقدم العلمي الهائل الذي تشهده العلوم التجريبية المعاصرة، ليس في الحقيقة ناتجاً عن تقدم المنهج إطلاقاً… إنما هو في الواقع ناتج عن الإمكانات الهائلة التي أودعها الله في هذا الكون… إنها عظمة الله تتبدى في عظمة خلقه، وليس ذلك ناجماً عن عظمة المناهج البشرية. إن العلم يكشف الطبيعة (الخلق) وقوانينها (السنن) ولا يخلقها من عدم… بل إن لبعض علماء الفيزياء المرموقين المعاصرين وهو بول ديفيس البريطاني كتاباً سماه “ضد الطريقة Against Method” يذكر فيه أن المنهج لم يكن في يوم من الأيام رائداً للبحث العلمي، بل كان دوماً متخلفاً وتابعاً للبحث العلمي!!
فالدور الضخم الذي يعطيه الجابري للمنهج يحتاج إلى مراجعة وتدقيق.
-في حديث المؤلف عن مرحلة التدوين في العصر العباسي، أشار إلى ما كتبه ابن المقفع في رسالته التي سماها “رسالة الصحابة” حيث يرى فيها كما يرى محمد أركون إنها ذات نفس علماني واضح…! وحجتهم الوحيدة على ذلك: هو أنه لم يستشهد في هذه الرسالة بالقرآن، ولا بالحديث ولا بأي عنصر آخر من الموروث الإسلامي…! والحقيقة أن القارئ لهذه الرسالة لا يجد ذلك النفس العلماني المزعوم، وإنما غرض ابن المقفع الدعوة لتنظيم الدولة، وتوحيد القضاء، منعاً للاختلاط والاضطراب، وذلك باستخدام سلطة الخليفة دون أي دعوة ظاهرة أو خفية إلى تنحية الشريعة، أو تقديم بديل عنها، وهو مطلب لا يوجد أي غبار عليه، ولا يعتبر مطعناً في صاحبه!
-يركز الجابري في دراساته المختلفة على البعد العربي لمناهج التفكير والمدارس التي يحلل إنتاجها، وهو بعد ليس له مبرر، ذلك أن هذا التراث شاركت في بنائه وتكوينه عقول مختلفة من شتى الشعوب الإسلامية، ولم ينفرد العرب في تكوينه ولا تدوينه، وإنما هو ثمرة لتضافر جهود آلاف من الباحثين المسلمين في شتى التخصصات، فلعل الكاتب خشي من سوء الفهم عند نقد العقل المسلم، إذ يفهم بعضهم ذلك بأنه نقد “للمنهج الإسلامي” وليس لمناهج “المفكرين المسلمين” والفرق بعيد بين الأمرين.
ورغم وجاهة هذا الاحتمال، فإنه لا يكفي مبرراً لإضفاء صفة “قومية” على التراث الإسلامي، ويمكن تلافي مثل هذه المخاطر بالتنبيه عليها في مطلع أو خاتمة مثل هذه الدراسة .
-وأخيراً… رغم النجاح الواضح الذي حالف المؤلف في تعرية تيارات الغنوص، والعرفان الرافضي والباطني والفلسفي والصوفي، وكذلك في الكشف عن مناطق الضعف والخلل عند بعض التيارات الأخرى، إلا أنه في ذات الوقت لم يبلور للقارئ الملامح النهائية للمشروع النهضوي المنشود الذي تتبناه هذه الدراسة وتدعو إليه … فظاهر أن المؤلف لا يقف موقف الموتور المعادي للموروث الإسلامي، لكنه في ذات الوقت لم يبشر به، ويعتبره المخرج مما نعانيه من أزمة على شتى الصُعُد.
-إن الحلول التي قدمها المؤلف في نهاية كتابه عن العقل السياسي وهي:
1-تحويل القبيلة إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي: لأحزاب أو نقابات..الخ، وفتح الباب لقيام مجال سياسي حقيقي، تمارس فيه السياسة ويصل بين سلطة الحاكم وامتثال المحكوم.
2-تحويل الغنيمة إلى اقتصاد ضريبة في إطار اقتصادي إقليمي جهدي وفي إطار سوق عربية مشتركة تفسح المجال لقيام وحدة اقتصادية عربية تنموية.
3-تحويل العقيدة إلى مجال يسمح بحرية التفكير وحق الاختلاف والتحرر من سلطة الجماعة المغلقة والتحرر من سلطة عقل الطائفة والتعامل مع عقل اجتهادي نقدي” (العقل السياسي: ص37) هذه الحلول لا تمثل برنامجاً كافياً مبلوراً للخروج من أزمة التخلف والتبعية والتشرذم… ولذلك فإنني أدعو الباحث وغيره من الجادين في الرغبة بنهوض هذه الأمة، ومحاولة استئناف مسيرتها القيادية لذاتها وللناس أدعوهم إلى مراجعة موقفهم من الحل الإسلامي، واتخاذ موقف أكثر علمية من الموقف الهلامي الذي يتخذه كثير منهم.. لابد لهم لكي يكونوا واقعيين مع أنفسهم أن ينحازوا للخيار الذي لا تقبل الأمة عنه بديلاً… ألا وهو رفع شعار الحل الإسلامي، والتبشير به والدعوة إليه والسير الحثيث والفعلي لإنجازه…(عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) (المائدة:25)… (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون) (البقرة:138)… (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس) (الحج:78) والحمد لله رب العالمين). انتهى كلام الأستاذ عبد العزيز الوهيـبـي –وفقه الله-.
وقال الدكتور مفرح بن سليمان القوسي في رسالته (المنهج السلفي والموقف المعاصر منه في البلاد العربية) (2/561-569): (الدكتور محمد عابد
الجابري : الذي قدم في كتبه ما يمكن أن يُسمى مشروعاً تحديثياً لتجديد الشريعة كي تبدو موافقة للتطور وموائمة لظروف العصر، والتجديد الذي يدعو إليه ليس هو التجديد بمفهومه السلفي الضيق –على حد تعبيره- بل تجديد بمفهوم عصري واسع يقوم على العقل وحده، فنراه يقول: “والتجديد بالنسبة للرؤية الإسلامية جزء من الحياة نفسها بدليل الحديث النبوي المشهور (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، وبما أن الإسلام لا يفصل بين الدين والدنيا، بل بالعكس من ذلك يربط صلاح أمور الدين بصلاح أمور الدنيا، فإن تجديد أمور الدين يعني في ذات الوقت تجديد أمور الدنيا. وبما أن أمور الدنيا تتغير من زمان إلى آخر، فإن مفهوم التجديد ومتطلباته لابد أن يتغير حسب الظروف والأعصار. وهكذا فإذا كان بعض الفقهاء القدامى قد فسروا “التجديد” على أنه كسر للبدعة والعودة بالمسلمين إلى سيرة السلف الصالح، فينبغي ألا نقف عند حدود هذا المعنى تقليداً لهم وتقيداً بالتعريف الذي أعطوه للبدعة، والذي استمدوه من ظروف عصرهم ومعطيات واقعهم”(12) .
ويقول كذلك محدداً (التجديد) الذي يحتاج إليه المسلمون اليوم:”والحق أن ما يحتاج إليه المسلمون اليوم هو “التجديد” وليس مجرد “الصحوة”، إن التحديات التي تواجه العالم العربي والعالم الإسلامي تتطلب ليس فقط رد الفعل بل الفعل، والفعل في العصر الحاضر هو أولاً وأخيراً فعل العقل… لأن العصر يقوم كل شيء فيه على الفعل العقلاني”(13) .
ويتمثل المشروع التحديثي الذي قدّمه الجابري لتجديد الشريعة فيما يلي:
أولاً: إعادة تأصيل الأصول ولا سيما أصول الفقه، وإعادة بناء منهجية التفكير في الشريعة، وفي هذا يقول: “إن المطلوب اليوم هو إعادة بناء منهجية التفكير في الشريعة انطلاقاً من مقدمات جديدة ومقاصد معاصرة، وبعبارة أخرى: المطلوب اليوم تجديد ينطلق لا من مجرد استئناف الاجتهاد في الفروع، بل من إعادة تأصيل الأصول؛ من إعادة بنائها”(14) ، ويقول أيضاً: “إنما نريد أن يتجه تفكير المجتهدين الراغبين في التجديد حقاً والشاعرين بضرورته فعلاً إلى القواعد الأصولية نفسها، إلى إعادة بنائها بهدف الخروج بمنهجية جديدة تواكب التطور الحاصل، سواء على صعيد المناهج وطرق التفكير والاستدلال أو على صعيد الحياة الاجتماعية والمعاملات الجارية فيها التي تفرضها مستجدات العصر وضروراته وحاجاته. إن القواعد الأصولية التي ينبني عليها الفقه الإسلامي لحد الآن ترجع إلى عصر التدوين (العصر العباسي الأول)، وكثير منها يرجع إلى ما بعده. أما قبل عصر التدوين هذا فلم تكن هناك قواعد مرسمة تؤطر التفكير الاجتهادي بمثل ما حدث بعد، والفقهاء الذين وضعوا تلك القواعد قد صدروا في عملهم الاجتهادي ذاك عن النظام المعرفي السائد في عصرهم، وعن الحاجات والضرورات والمصالح التي كانت تفرض نفسها في ذلك العصر، وبما أن عصرنا يختلف اختلافاً جذرياً عن عصر التدوين ذاك، سواء على مستوى المناهج أو المصالح، فإنه من الضروري مراعاة هذا الاختلاف والعمل على الاستجابة لما يطرحه ويفرضه”(15)، ويقول كذلك: “إننا نريد أن نؤكد في هذا السياق أن الدعوة إلى تحقيق الأصالة والمعاصرة، وهي دعوة ما فتئت تتردد على ألسنتنا وفي كتاباتنا منذ أكثر من قرن ودون جدوى ستبقى مجرد دعوة تتقاذفها أمواج التغير والتبدل الذي يفرض نفسه على الحياة المعاصرة ما لم ترتفع تلك الدعوة إلى المستوى الذي يجعل منها دعوة إلى التكيف الواعي مع المستجدات قصد السيطرة عليها ارتكازاً على تأصيل جديد للأصول”(16) .
ويقول كذلك مبرراً دعوته إلى تغيير أصول الفقه :”القواعد الأصولية هذه ليست ما نص عليه الشرع لا الكتاب ولا السنة، إنها من وضع الأصوليين، إنها قواعد للتفكير، قواعد منهجية، ولا شيء يمنع من اعتماد قواعد منهجية أخرى إذا كان من شأنها أن تحقق الحكمة من التشريع في زمن معين بطريقة أفضل”(17).
ومن القواعد الأصولية التي يريد الجابري تغييرها كي تبدو الشريعة مواكبة للعصر ومسايرة للتطور ما قرره معظم الفقهاء من دوران الحكم الشرعي مع علته في عملية الاجتهاد، ومعلوم أن العلة وصف منضبط في الشيء الذي صدر فيه الحكم؛ وبهذا الوصف يُعرف وجود الحكم فإذا وجد وُجد الحكم. ويريد الجابري تغيير ذلك بأن يكون دوران الحكم الشرعي مع الحكمة والمصلحة لا مع العلة، فإذا وُجدت الحكمة والمصلحة وُجد الحكم، وإذا عُدمت أُلغي الحكم، ويضرب لذلك مثالاً وهو : الحكم بإباحة الفوائد المترتبة على بعض المعاملات المالية التي هي نوع من شهادات الاستثمار وسندات البنوك وذلك لعدم وجود الاستغلال في هذا النوع من المعاملات، ويقول: “ومعلوم أن منع الاستغلال هو الحكمة من تحريم الربا” (18).
ويحتج الجابري على ما ذهب إليه من ضرورة أن يكون دوران الحكم مع الحكمة والمصلحة لا مع العلة بقوله: “وإذا كان عمر بن الخطاب قد عمل باجتهاده واجتهاد الصحابة الذي استشارهم في مسألة فيها نص، فوضع الخراج عن الأراضي المفتوحة عنوة بدل تقسيمها بين المقاتلين مراعياً في ذلك المصلحة؛ مصلحة الحاضر والمستقبل، وإذا كان قد عدل عن قسمة الغنائم بالسوية كما كان يفعل النبي وأبو بكر، وارتأى أن “العدل” يقتضي قسمتها على أساس السبق في الإسلام والقرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا كان عمر بن الخطاب –المشرع الأول في الإسلام بعد الكتاب والسنة- قد اعتبر المصلحة ومقاصد الشرع فوضعهما فوق كل اعتبار فلماذا لا يقتدي المجتهدون والمجددون اليوم بهذا النوع من الاجتهاد والتفكير بدل الاقتداء بفقهاء عصر التدوين والترسيم؟ لماذا نضيق على أنفسنا ونسجن اجتهادنا في قواعد كانت تفي بالمصلحة والمقاصد قليلاً أو كثيراً في زمان إذا لم تعد تفي بنفس الغرض اليوم على أكمل وجه، والحال أنها قواعد مبنية على ظن المجتهد، وليس فيها شيء من القطع واليقين باعتراف أصحابها أنفسهم؟. أما دوران الأحكام مع المصالح فشيء يفرض نفسه ما دمنا نقرر أن المصلحة هي الأصل في التشريع، وأعتقد أن هذا المبدأ هو الذي صدر عنه الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب، وإذن فالاجتهاد يجب أن يكون لا في قبول هذا المبدأ أو عدم قبوله بل في نزع الطابع الميكانيكي عن مفهوم الدوران، والعمل من أجل الارتفاع بفكرة المصالح إلى مستوى المصلحة العامة الحقيقية كما تتحدد من منظور الخلقية الإسلامية، إنه بدون هذا النوع من التجديد سيبقى كل اجتهاد في إطار القواعد الأصولية القديمة اجتهاد تقليد وليس اجتهاد تجديد حتى ولو أُتي بفتاوى جديدة”(19) .
ثانياً: تأسيس معقولية الأحكام الشرعية، وذلك باتخاذ المقاصد والمصالح أساساً للتشريع، وربط الأحكام الشرعية بأسباب نزولها، وفي هذا يقول الجابري: “عملية تأسيس معقولية الأحكام هي العملية التي بدونها لا يمكن تطبيق الشريعة على المستجدات، ولا على الظروف والأحوال المختلفة المتباينة، ولما كان مقصد الشارع الأول والأخير هو مصلحة الناس (فالله غني عن العالمين) (20)، فإن اعتبار المصلحة هو الذي يؤسس معقولية الأحكام الشرعية، وبالتالي فهو أصل الأصول كلها، وواضح أن هذه الطريقة تتحرك في دائرة واسعة لا حدود لها؛ دائرة المصلحة وبالتالي فهي تجعل الاجتهاد ممكناً ولدى كل حالة”(21).
ويقول أيضاً داعياً إلى ربط الأحكام بأسباب نزولها كي تبدو الشريعة أكثر طواعية وأشد مسايرة لظروف العصر وأحواله المتغيرة: “لا سبيل إلا باعتبار المقاصد والمصالح أساساً للتشريع، ذلك لأنه في هذه الحالة يتجه المجتهد بتفكيره لا إلى اللفظ (الحقيقة، المجاز، الاستعارة، الخصوص، العموم)، بل إلى (أسباب النـزول)، وهذا باب عظيم واسع يفتح المجال لإضفاء المعقولية على الأحكام بصورة تجعل الاجتهاد في تطبيقها وتنويع التطبيق باختلاف الأحوال وتغير الأوضاع أمراً ميسوراً”(22) ، ويقول :”بناء معقولية الحكم الشرعي على (أسباب النـزول) في إطار اعتبار المصلحة يُفسح المجال لبناء معقوليات أخرى عندما يتعلق الأمر بـ(أسباب نزول) أخرى، أي بوضعيات جديدة، وبذلك تتجدد الحياة في الفقه، وتتجدد الروح في الاجتهاد، وتصبح الشريعة مسايرة للتطور قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان”(23) ، ويضرب الجابري لذلك مثالاً وهو: ضرورة ربط عقوبة القطع في السرقة في الشريعة الإسلامية بأسباب نزولها؛ وهي: ما كان عليه العرب قبل الإسلام وزمن البعثة النبوية من حيث إقامتهم في مجتمع بدوي صحراوي، واعتمادهم على التنقل والترحال طلباً للكلأ مما يلزم معه قطع يد السارق، وأما في وقتنا الحاضر وقت التطور العمراني والصناعي فقطع يد السارق غير ملائم لردعه عن تكرار السرقة، بل الملائم هو السجن بدل القطع، فنراه يقول ما نصه: “إذا تحررنا من سلطة القياس والانشداد إلى الألفاظ، وانصرفنا باهتمامنا بدلاً من ذلك إلى البحث عن (أسباب النـزول)، وهي هنا الوضعية الاجتماعية التي اقتضت نوعاً ما من المصلحة وطريقة معينة في مراعاتها.