الإثنين 29 أبريل 2024| آخر تحديث 8:24 04/02



لولا الموت…!!

لولا الموت…!!

أسبوع كامل على التحاق إحدى خالاتي إلى الرفيق الأعلى وأسلمت الروح إلى بارئها وهي تردد الشهادتين بسكينة وطمأنينة منقطعة النظير. لكن الأهم هو أن قصة حياتها كما موتها تركت في نفسي بعضا من العبر التي أثقلت عقلي وقلبي بعد خروجي من تعزية ذويها وأقاربها الذين شدوا الرحال من مختلف المناطق والجهات لأجل استقبال المواسين والمعزين فيما يصطلح عليه (المعروف) عندنا أهل سوس.. أسبوع على الألم الذي اعتصر النفوس فردها عن غيها وذكرها بشيء تناسته حينا من الدهر.. أسبوع مر على الحدث الأليم الذي ترك فيّ انطباعا خاصا توسلت هذا القلم مليا للبوح به حتى لا يبقى حبيس الصدر الذي لم يعد يحتمل الكثير.
   إن الموت حقيقة لا ينكرها العقلاء ولا المجانين، ولا يأمن شره بنو آدم ولا الدواب والبهائم.. الكل في ذلك سواسي، لا فرق بين عربي وعجمي وبين أحمر وأسود.. لا يعرف الصغير ولا الكبير، ولا يكترث لصاحب الحاجة والغرض، ولا يميز الفقير عن الغني صاحب الجاه. لا يهتم لأم وضعت ابنها في فلاة ولا للمنتظر نعلا حتى يُصنع على مقاسه..
   إن من تمعن الفكر وأعمل النظر في شيء اسمه “الموت” سيلجأ إلى ربه شاكرا ما استطاع إلى ذلك سبيلا. فهو الذي لا يقبل رشوة من فئة عشرين درهما ورقية للهروب من مخالفة مرور، كما لا يصلح معه شيك على بياض لشراء الذمم والأحكام.. لهذا السبب جميعا كان الموت موتا، حتى أصبح لدى البعض مهربا ولدى الآخرين جحيما لا يطاق.
   من الصدف الغريبة أنني في تلك الأيام طالعت في إحدى الصحف قضية “فاطيم” الخادمة المسكينة القاصر بأكادير، سليلة تارودانت التي قضت نحبها نتيجة ظلم لَحقها من ذئاب بشرية نصبت نفسها سببا لانتزاع روحها البريئة إلى بارئها فأحسست بعدها في أعماق كياني بشيء اسمه الموت. “حروق من الدرجة الثانية” .. “احتراق 75 في المائة من الجسم” .. “وجود تخثر دموي في الرأس، إلى جانب انتفاخ على مستوى الجفنين” .. “رضوض في الجبهة” .. “وفاة القاصر كان نتيجة فعل جرمي ” … “كانت ستحتفل‮ ‬يوم فاتح أبريل بشمعتها الخامسة عشرة للتعذيب والكي”.. عبارات مأساوية تناقلتها الوسائل الإعلامية بمختلف أشكالها وألوانها للدلالة على شيء وحيد انتهت به الحكاية، إنه “الموت” .ذلك الذي سيأخذ على حين غرة أولئك القتلة الغافلون الذين توسلت إليهم الضحية غير ما مرة، في حين أن أجسادهم سيضمها ذلك التراب الذي وارى الجسد النحيف تيمنا بقول تميم البرغوثي:
إذا أقصد الموت القتيل فإنه … كذلك ما ينجو من الموت قاتله
   قصص أخرى طويلة فصولها لا أريد أن اقف عندها في هذا المقال المتواضع، فلا الصفحات تتسع لذلك ولا الألسن تستطيع لهجها، تتعدد أحداثها وشخصياتها جميعا لكن الموت يبقى العنصر الوحيد الذي يضع حدا لمجرياتها فتبقى بذلك حكاية “فاطيم” أنموذجا بسيطا من حطام آدمي يقبع في سراديب مجتمعاتنا يشكو ظلم العباد لخالقهم، لكن الموت لهم جميعا بالمرصاد.
   لولا الموت على ما هو عليه إذن –أقصد المساواة في شأنه-  لنجا القتلة ونجا معهم  الظالمون، وأكلة حقوق العباد ولخلدوا أنفسهم من دون العالمين سيفا مسلولا على رقاب الضعفاء والفقراء دونما سبب حتى لا يزعجوهم بالآهات والأنين البادي من شدة الألم… ولولاه ما التفت إنسان لإنسان ولما تحركت في قلب العباد ذرة رحمة ولولا الموت رغم كل شيء لما كان للحياة معنى.. فالأشياء إنما تعرف بأضدادها.
   الموت هو الموت، جنّد له ربنا جنودا لا يمهلون نفسا إذا جاء أجلها ساعة ولا هم يستقدمون، ليصير بعدها الجسد هامدا نحو تراب. ولا شيء غيره حتى لا يتعفن ويعكر على الأحياء صفوهم، فتتزوج بعدها الأرامل كأن شيئا لم يقع، ويحتفل بعدها الإخوة كأن أخاهم لم يذهب إلى غير رجعة. وهكذا تستمر الحياة وتدور عجلة قبض أرواح العباد لحكمة يعلمها الخالق الذي قال في كتابه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
بقلم احمد إضصالح