الإثنين 29 أبريل 2024| آخر تحديث 10:16 03/27



تحرر فكري..الجزء الثالث

تحرر فكري..الجزء الثالث

إشكالية التأصيل الشرعي وصراع المفاهيم
لعلي  سأصيب القارئ الكريم بالملل والضجر من هذه السلسلة اللامتناهية, وربما تصادف عينيه كلاما مكررا سبقت الإشارة إليه في مقال سابق, فإن وقع مني ذلك فاعلم أنما أوردته لأهميته ولتأكيد عليه, لأن مسلك التغيير والإصلاح والتقويم يستلزم الإلحاح والتكرار, وبالمناسبة فإني أبشره –  القارئ الفاضل – بأن يكون هذا المقال الجزء ما قبل الأخير,فالكلام عن هذا طويل ولكننا نجاري الأوقات التي تبخس منا الأعمار و تقربنا من دار القرار – نسأل الله أن يبارك لنا فيها – ونرجو من وراء هذا العمل النفع والإخلاص والسداد,.في الحقيقة لقد كنت مضطرا إلى عقد هذا الجزء لرد الأمور إلى نصابها, لعلمي بأن بعض القراء قد يفهم من مقالتي غير ما قصدت, و ربما يأخذها من غير مأخذها, فتفوته الفائدة و الاستفادة, ولن يكون مستبعدا أن أقذف من قبل البعض بعبارات الفسق والزندقة, وأن أحشر في زمرة دعاة الضلال والإضلال – نسأل الله السلامة – ولكنك قبل أن تحكم علي كن موضوعيا و محايدا ومنصفا, و خض في غمار الموضوع بحسك كله واستبعد الأحكام المسبقة وأحكام القيمة ,فإنها تحول دون بلوغ الحق, و تهدم الأسس العلمية المتحررة, والشخصية المعنوية الراشدة.
إنما جاء هذا المقال في سياق غايته كشف بعض الظواهر المستحدثة حول مناهج الإفتاء اللامنضبط, والغير المؤصل, والذي يكون في أغلب الأحوال تعسفا على نصوص الكتاب والسنة, وحملها على ظاهرها دون مراعاة لقواعد الاستنباط  والترجيح والتنزيل, ودون رد الاعتبار لأصول المذهب,فتغييبنا لهذه الأمور والضوابط يقودنا حتما إلى سلك مسلك الحفاظ , والذي يتقنه الكل بعرض النص واستخراج الحكم وتنزيله على المكلف دون مراعاة أحواله وملابساته, هذا هو المسلك الآلي للإفتاء إن صح التعبير!! الذي انتُقد به أهل الظاهر ومنهم الإمام بن حزم حتى قال “ابن العربي”: الأخذ بالظاهر أول معصية عُصي بها الله – يقصد آدم عليه السلام الذي نهاه الله أن يأكل من الشجرة فأخذ بظاهر النص وأكل من جنسها ولم يأكل من الشجرة نفسها – وقال كذلك في كتابه “العواصم”:- في الظاهرية – هي أمة سخيفة,تسورت على مرتبة ليست لها,وتكلمت بكلام لم تفهمه, تلقفوه من إخوانهم الخوارج حيث تقول لا حكم إلا لله”- فالتأويل المذموم والذي رده مالك رحمه الله ولم يقبله بل رفضه بقوة, وعَد قائله من أهل البدع, وهو التأويل الذي يُمارس على آيات الصفات – عياذا بالله – مع أن القاعدة التي تحكم أحاديث وآيات الصفات:”إقرار وإمرار” ولا يجوز الخوض فيها, و الأسلم فيها الأخذ بالظاهر,أما ما عدا هذا المقام فيجوز فيه الـتأويل ولا حرج. فالإشكال الواقع الآن والملتبس على المدارك والأفهام ليس في صحة النص أو درجته أو إثبات حجيته وإنما في فهمه وضبطه مع قرائنه و حسن تنزيله ,لعدم مراعاة الشروط التي وضعها الأصوليون في فهم نصوص الكتاب والسنة, والتي يمكن إجمالها في أمور ثلاثة :
1-    إثبات حجية النص وسلامته من المعارض.                      2- فهم دلالته اللغوية والأصولية.
3 – فقه تنزيله على واقع المسلمين, وهنا تظهر حكمة المجتهد والمفتي,و هنا تتسع دائرة الاختلاف بين العلماء ولا إنكار بينهم في هذه النقطة – لأن القاعدة تقول”لا إنكار في مسائل الخلاف” – لأن العلماء قد يحسنون إثبات حجية النص وفهم دلالته اللغوية والأصولية ويخونهم حسن التنزيل ,ومن الجهل والعيب أن تجد العالم يلح إلحاحا على أن يحمل الناس على الأخذ بما يراه مناسبا هو في التنزيل وأن يبطل قول من خالفه و يرميه بالابتداع, لأن مشكلتنا نحن أننا لم نعد نميز بين الخلافات الفقهية والخلافات العقدية ,و صارت عندنا في درجة واحدة, وهذا ما أوقع الأمة في هذه التفرقة والتمزق واتساع دائرة الخلاف,و تجاوزه إلى دائرة الشقاق. ولابد هنا كي يتضح المقال أن نردفه بالمثال : قوله صلى الله عليه وسلم :”ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم…”فكل الفقهاء مُجمعون على حجيته وسلامته من المعارض, وكلهم فهم دلالته اللغوية والأصولية, ولكنهم عندما أرادوا تنزيله على الواقع اختلفوا؟؟! والبليد فعلا من يهاجم رأي ومذهب مخالفه في التنزيل, ويرميه بالبدعة والضلال, وينقض هذا الفهم, وإن كان له قدر من الوجاهة – وربما يُدرج ضمن البدعة الإضافية التي يقررها الإمام الشاطبي المجتهد المجدد لعلم الأصول بلا منازع منذ الإمام الشافعي, فعلم الأصول كما يقال : بدأ مع الشافعي وانتهى مع الشاطبي,وكلامه لن يسلم من ردودهم و يحق لهم الرد عليه لأنهم بلغوا درجته في الـتأصيل و التقعيد والتنظير؟؟!!,فالحديث الذي يُحسن كل واحد إسقاط إحداثياته على محور الأفاصيل و الأراتيب وعلى مقياس يرتضيه الشيخ الأكبر الذي لا ينطق عن الهوى, فيقول كلمته المشهورة : “هذه بدعة,وكل بدعة ضلالة”ويرددها بفهم عام سطحي فضفاض هكذا!!
  وقد أحسن من قال:                 يقولون هذا عندنا غير جائُز            ومن أنتمُو حتى يكون لكم عندُ؟
و هو بنفسه لم يفهم الحديث والمراد به,وهل المراد منه بدع العقائد أو بدع الأحكام والعبادات والشرائع؟؟؟!! – عياذا بالله – وهو بعيد كل البعد عن فقه الواقع والموازنات و مراعاة ترتيب الأولويات,فصار الدين لعبا والإسلام شركا – كما قال ابن رشد رحمة الله عليه – .
والحل واضح وبائن إن أرادوا الخروج من هذه المتاهات والمطبات وهذا الضرب من التمحل الذي أوقعوا فيه أنفسهم وهم ليسوا أهلا للخوض في دقائق مسائله, يمكن أن نلخصه في القاعدة الذهبية التي لا يريدون تحكيمها البتة ولهم حساسية مفرطة ضدها ويشمئزون بمجرد ذكرها وسماعها, رغم أنها تجسد روح الدين وجوهره بل غايته العظمى من جمع الشمل وتوحيد الصف ألا وهي: “نتعاون في ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه”.فالمفروض أن تشتغل الجماعات الإسلامية برمتها تحت هذا المبدأ, فكل منها يلامس ويستقي أصوله من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة, وأنا أخاطب الذين يقفون على الأسماء و المسميات “فالشيخ الألباني” رحمة الله عليه, قد أدخل الجماعات الإسلامية في دائرة أهل السنة والجماعة – وتكون موافقتها للسنة بنسب متفاوتة,ولا تكون فيها العصمة للأشخاص, وأعجبني كلام فضيلة الدكتور “حسن العالمي”حين قال كلاما منصفا – حفظه الله – في حق الجماعات والجمعيات والتيارات المشتغلة في نشر الدعوة” أنها مدارس للتربية كلها ملتزمة بالأصول الكلية للإسلام” وقد أثنى الشيخ “بن باز”رحمة الله عليه على جماعة التبليغ,ولكن مع الأسف أن القوم ابتلوا بظاهرة قبيحة خطيرة أنهم لا يأخذون من مشايخهم إلا ما يهاجمون به إخوانهم من أهل السنة – عياذا بالله –   
  أما من خالف الأصول, وخالف ما عليه السواد الأعظم, وشذ عن مذهب المسلمين, فلا عبرة بخلافه, ولا يدخل في مسمى أهل السنة والجماعة, وليس مخاطبا بالخطاب الشرعي أصلا, وهذا الذي يدخل في حديث الافتراق – كالشيعة الرافضة قبحهم الله – و لا كرامة لبدعة في أصول الاعتقاد يجب أن نتفق على هذا,والمغتر بدينه هو الذي لا يشرك هذه الجماعات في نصيبه الذي أوتي من الفهم,ولا يقبل بل ويقاطع ما يصدر من جانبهم, ولو كان حقا وهو يعلم أنه حق, ولا حتى محاورتهم بدعوى احتكار الحق, واحتكار فهم النص,ويجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا,وبكل واقعية نقول: “أما الكمال فإنه عزيز”,وكما قال الشاعر :                                                        
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها           كفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه
أما دعوى من يقول بأنه يرفض المذهبية, ويدعو إلى تجاوز المذهب,فإنه في حقيقة الأمر يدعو إلى الفوضى,فيكون لكل من تصدر للدعوة والرأي والفتوى مذهبه الخاص,ومع الأسف أن هذه الدعوة فتحت المجال في زمن لان فيه الدين, وكثرت فيه الأهواء والتحيز والتعلق بالأشخاص والرسوم والأشكال,فأصبحنا لا نقبل هديا ولا سنة ولا منهجا إلا إذا صدر من فلان أوعلان, وتم حصر الدين في الشخصانية و الفردانية, ومثل هؤلاء,إنما يوقعون أنفسهم من حيث لا يشعرون في مقام المجتهد المطلق كمالك وغيره من أئمة المذاهب؟؟!كونوا في درجة مالك و الشافعي, و تسلموا الراية وقودوا السفينة!!
فلزام على الأمة الإسلامية إن أرادت التقدم والسير بالدعوة إلى الأمام, أن تتحلى بالتعاون والتآلف و أن ترجع إلى المذاهب الإسلامية وتؤصل لها.
لأن ماهو حاصل الآن والذي لم يكن متوقعا لدى بعض الجماعات الإسلامية من ظهور الخوارج والشيعة من جديد بأسماء السلفية وهم السلفية الجهادية والسلفية المدخلية …التي شهد لها العالم الإسلامي بالخروج والشذوذ عن منهج عامة المسلمين.فهذه المذاهب – أي المذاهب الأربعة – المنضبطة والمؤصلة والمهذبة والمعتدلة, والتي ندعو بالرجوع إليها,إنما جاءت كمنهج لتحصين الكتاب والسنة بشرائعه وعقائده من الغلو و التعسف على النصوص, لاسيما وأن الظرفية التي ظهر فيها الأئمة كانت ظرفية مضطربة بظهور الخوارج والشيعة والمعتزلة والقدرية والفرق الكلامية –  فسبحان الذي سخرها الله لخدمة دينه وسنة نبيه وإلا لقال من شاء ما شاء!!! – فكان الفرج من الله أن هيأها للناس ليلتفوا حولها, و بادروا بالتمسك بها مخافة فساد دينهم بالمذاهب اللادينية واللامنهجية التي ظهرت في صدر الإسلام,وكذلك الآن اقتضت الضرورة أن يجتمع الناس من جديد على مناهج ومذاهب أئمتهم لصيانة الأمن العقدي للبلد وتوحيد الفتوى, لأن المد الرافضي الشيعي, قد يجتاحنا من الساحل ,وغزوه الفكري ممتد لا محالة,فمذهب مالك رحمه الله منهج حياة,عقيدة وشريعة ,أما أن نقول بتجاوز المذهب وأن نستغني عن تراثنا الفقهي كما يسعى إليه البعض,حتى من ناحية التناول والتدريس يحاول أن يستغني عن تراثه الفقهي الرزين والحافل,وكثيرا ما يخالفون المنهجية وبذلك تقل المردودية الفقهية,فتناول المادة العلمية ليس منهجيا أن يبدأ الطلبة بتلقين الخلاف الفقهي وهذا خطأ فادح,والمنهج الصحيح أن يلقن طالب العلم المتون العلمية ضبطا وحفظا “كمتن ابن عاشر” – عليه رحمة الله – الذي هذب للمغاربة مسائل الفقه و المذهب, فاعتكفوا عليه شرحا وضبطا وتدريسا واعتراضا وانتصارا,وقد شرح شروحا عدة من أجود ما اطلعت عليه “العرف الناشر” وكان فيه المؤلف –جزاه الله خيرا- من المنصفين المنتصرين للدليل وأحسن التأصيل, فإن تمكن طالب العلم من ضبط مسائل المذهب آنذاك تكون له الأهلية,و يرقى إلى مستوى استيعاب الخلاف والمقارنة بين المذاهب والترجيح,ونرجو أن يخرج من بلدنا طلبة يرقون إلى هذا المستوى,وأن يعنى بهم إن وجدوا, لأن مشكلتنا نحن تكمن في الاحتقار والاستهانة والاستخفاف بكل ماهو من خصوصية البلد,حتى ساكنته يُستخف بهم, وبمجهوداتهم, سبحان الله قمع من الداخل ومن الخارج!! وبالمقابل نغتر بكل ما نستورده من المشرق أفكارا,أشكالا, اعتقادات , وعادات !! رغم أن المغاربة قديما كانوا أساتذة للمشرق في ضبط القرآن ورسمه وضبط الفقه والأصول,و حتى الآن, ولله الحمد مازالت بيئتنا محافظة ومهتمة بالفقه والقرآن, وإسهامات المغاربة في هذه الفنون مشهود, يقول الإمام المقري في كتابه”نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” ناقلا أبياتا لطيفة عن المعاناة النفسية التي عانى منها ابن حزم الأندلسي :
                                   أنا الشمس في جو العلوم منيرة                و لكن عيبي أن مطلعي الغرب
                                  ولو أنني من جانب الشرق طالعٌ                لجد على ما ضاع من ذكري النهب
                                  ولي نحو آفاق العراق صبابة                    ولا غرو أن يستوحش الكلف الصب
                                  فإن ينزل الرحمان رحلي بينهم                   فحينئذ يبدو التأسف والكرب      
والذي دفعني لتسطير هذه الكلمات هو غيرتي على مذهب مالك,عقيدة وشرعة لا ينفكان,وكذا ما رأيته من انتهاك لحرمة مذهب مالك وأصحابه,فترك عقيدته والإعراض عنها فيه طعن غير مباشر في عقيدة الإمام رضي الله عنه,وأنا أوجه الخطاب لبعض الجهات الرسمية المسؤولة ومنها مندوبيات الشؤون الدينية والمجالس العلمية,فهم المسؤولون قبل أي جهة أخرى عن حماية الأمن العقدي للبلد والحفاظ على هويته ومرجعيته, وتطهير عقيدة أبناء المسلمين عن أي فكر دخيل يخالف ما عليه مالك و تنقيحها من بعض الدسائس التي ابتدعها بعض أصحابه من بعده, ولم تكن من نهجه و لا من نهج من سلف, فلن نتنازل عن عقيدة إمامنا مالك رضي الله عنه,ولن نحيد عنها, ونريد أن ينشأ عليها أبناء هذه الأمة,وأن يلقنها الصبيان قبل الشبان,فلنعد لاستقراء تراثنا عودة صادقة,و لنأخذ العقيدة من أئمتنا ورثة مالك,كابن أبي زيد القيرواني في “رسالته”, و الإمام القحطاني المالكي في “نونيته” رحمة الله على أئمة الهدى جميعا,فمن أُخذ عنهم الفقه دون العقيدة في تاريخ المسلمين,كان أغلبهم مطعونا في عقيدته إما بالاعتزال أو التشيع أو الرفض …    – فوالله لئن تراثنا لغني يتحقق به الاكتفاء الروحي والعقدي والفقهي, مما نستورد من المشرق,فيجب أن نبقى ونحافظ على مكانتنا العلمية في ريادة العلوم الشرعية.              
    وأختم بقول الشيخ “حبيب الله بن مايابي الجكني في شرح الزاد:”النجاة في هذا الزمان في التزام مذهب من المذاهب الأربعة,لكن من الكمال فيه طلب دليل كل فرع من فروعه من الكتاب والسنة.قال صاحب التحرير: واللامذهبية التي صار ينحلها ويدعو إليها كل من هب ودب أمر ينكره الشرع,وينبو عنه السمع,لما يترتب عليه في الغالب من تسور على الأدلة الشرعية قبل النظر في عوارضها,والتروي في مقتضيات مدلولاتها,حسبما تسول له النفس أو يدعو إليه الهوى والطبع,وذلك ربما أفضى إلى الانتحال من ربقة الدين – نسأل الله السلامة والعافية -.
    أسأل الله جل و علا أن تبلغ هذه الكلمات المسامع, فدعوتنا إلى التغيير والإصلاح دعوة صادقة, ولا نزكي أنفسنا والله حسيبنا – فقد جاءت رياح الربيع العربي بالتغيير في المجال  السياسي والاقتصادي  البنيوي  والتنموي – ولكنها أغفلت الجانب الديني كأنه ليس معنيا بالتغيير, و لكن الواقع يفصح بأنه من أولى الميادين بالتغيير, والحاجة فيه أصبحت ملحة على الإصلاح, ولو صلح لصلحت تباعا المجالات الأخرى, ولصلحت الأسرة والمجتمع –  أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.  الكاتب : محمد أمين إدحيمود