الجمعة 26 أبريل 2024| آخر تحديث 8:23 01/03



ما لا يـدرك كـلـه, لا يـتـرك جـلـه

ما لا يـدرك كـلـه, لا يـتـرك جـلـه

جاءت حكومة المملكة المغربية الجديدة في إطار متغيرات دولية و جهوية و إقليمية متميزة سياسيا و اقتصاديا لتأسس لمرحلة انتقالية في محاولة منها لإرساء قطيعة مع بعض الخطابات العدمية و العبارات المتخشبة في أبراجها العاجية, مستشرفة آفاق الإصلاح و التقويم في ظل الاستقرار و الاستمرار.
 
و إذا كان الدستور الجديد للمملكة يعطي المعارضة مكانة أساسية في المشهد السياسي و يضمن لها  ” … مكانة تخولها حقوقا من شأنها تمكينها من النهوض بمهامها على الوجه الأكمل, في العمل البرلماني و الحياة السياسية ” و يلزمها ب ” المساهمة في العمل البرلماني بكيفية فعالة وبناءة ” ( الفصل 10 ) , فان ما نشهده اليوم من بعض التشويش على عمل الحكومة لا يمت لهذه المعارضة الفعالة و البناءة بأدنى صلة.
 
إن العمل السياسي الإصلاحي هو عمل مرحلي و متدرج, و المرحلة الانتقالية في أعراف الساسة هي تجريبية بالأساس, بمعنى أن إعادة الحسابات أمر بديهي لأن الترميم يقتضي التريث و التخطيط و تعزيز الثقة في المؤسسات. كما أن الإصلاح يتطلب كلفة يجب لزوما أن نعد الذهنيات و نستهدف العقليات لتقبلها, لا أن ننخرط في مخططات استعجالية عقيمة. فالإصلاحات الكبرى و التقويمات البنيوية و معالجة الأسباب في عمقها لا التخفيف من أعراضها أمور إستراتيجية يجب أن تنضج على نار أقل من هادئة حتى نستطيع قطف ثمارها و بطريقة مستدامة. أما و أن نراهن على فشل التجربة الحكومية الحالية حتى قبل أن تستنفذ ولايتها التشريعية, وكذا على فرملتها في إطار أزمة مالية عالمية وإشكالات داخلية متراكمة  فذلك هو العبث بعينه.
 
يجب على القوى السياسية المغربية أن تعي حقيقة أن مغربنا هو للمغاربة البسطاء أينما كانوا, و ليس مغربا للأحزاب و التنظيمات. فمن غير المقبول لا نقلا ولا عقلا أن نجر البلاد إلى نقاشات سياسوية ضيقة و حسابات حزبية طفولية تتغلب فيها المصلحة الخاصة على الصالح العام. فقد جاء سياق الربيع الديموقراطي بخصوصية مغربية تمحورت حول تغيير ناعم في إطار استقرار دائم. أكيد أننا لا زلنا نسير بسرعات متفاوتة و لم نلج بعد الطريق السيار, لكن البداية مزهرة و يجب الاعتناء بورودها حتى لا تذبل ويصير ربيعنا خريفا.
 
و من هذا المنطلق, كان من اللازم على كل الهيئات السياسية أن تعي حجم مسؤوليتها التاريخية و أن تظهر أننا ودعنا مرحلة التيه السياسي و دخلنا فعليا مرحلة النضج و الاستقرار, في رهان كامل و متكامل على إنجاح هذه التجربة الحكومية المنبثقة من رحم الشعب لا على إضعاف جهودها و تشتيت تركيزها. فأي عملية إجهاض لهذه التجربة الانتقالية هي في واقع الأمر لهو بالسياسة و ضرب لمصداقيتها.
 
و في المقابل يجب على الائتلاف الحكومي بقيادة حزب العدالة والتنمية أن يعي أن للمرحلة اكراهاتها و للتدبير تقلباته. و من تم فان تذكية البعض للعراقيل هي في الأساس جزء من الحياة السياسية الديموقراطية, لكن ما لا يعيه البعض المعارض هو أن هذه الحياة يجب أن تنبني على التدافع لا على التصادم. فشتان بين أن نعارض التدبير الحكومي لبعض الملفات و أن نعارض رئيس الحكومة فقط من أجل معارضته.
 
أكيد أن احترام البرنامج الحكومي المنبثق عن وعود الأحزاب الانتخابية أمر لا جدال فيه, غير أن طرح كل الإصلاحات و في آن واحد ليس برهان العقلاء حتى في أعتى الديموقراطيات بالعالم. فلنترك الحكومة إذن تشتغل في جو سياسي صحي و مسؤول يسود فيه النقاش حول البرامج لا حول الأشخاص, وتطرح فيه المعارضة البدائل لا العراقيل. و لتتسلح أطياف المؤسسة التنفيذية بالطموح في تأويل الدستور و بالنفس الطويل في أجرأته, و لنراهن جميعا على مشروع الإنجاح لا على فكرة الإفشال و ليحترم الكل مؤسسات دولة الحق و القانون حتى نعيد للمواطن ثقته في العمل السياسي, و ليعد البعض المعارض قراءة ( النقد الذاتي ) حتى تعطي المعارضة البرلمانية أولويتها للواجب الوطني كقيمة أنقى و أسمى من مصالحها و مصالحاتها الحزبية ف ” التفكير بالواجب هو المنهج الوحيد لتكوين الشخصية المستقلة التي تعيش للجموع و تحيا لخدمة الوطن ” ( علال الفاسي ). و ليتذكر المواطن أن هذه الحكومة هي ائتلافية بالأساس و ليست حكومة العدالة والتنمية, و لنضع صوب أعيننا أن البرامج الانتخابية تبقى مجرد مقاربات تحكمها النسبية و أن العبرة بالمقاصد. فقد احتاجت الولايات المتحدة لعشرات العقود حتى تؤسس لديموقراطيتها التي نراها اليوم كما احتاج حزب العدالة و التنمية التركي لأكثر من ولاية تشريعية حتى يستطيع تحقيق جزء من وعوده الانتخابية.
 
أختم أخيرا فأقول أنه من اللازم علينا جميعا أغلبية و معارضة أن ننتقل بعقلنا السياسي من ” مرحلة العقل الكلاسيكي المرتكز على اليقينيات المطلقة, إلى مرحلة العقل النسبي أو النقدي الذي يعود إلى نفسه باستمرار من أجل تصحيح مساره أو تعديله إذا لزم الأمر ” ( محمد أركون ), لكن من دون إسفاف  و لا تبخيس و لا تيئيس, و أن نتعامل مع السياسة من منطلق المصلحة الوطنية لا بمنطق الغنيمة… فالقاعدة الشرعية تقول أن        ” الميسور لا يسقط بالمعسور ” و ما لا يدرك كله لا يجب أن يترك جله.