الجمعة 26 أبريل 2024| آخر تحديث 8:16 04/14



قطار الفساد الفائق السرعة…

قطار الفساد الفائق السرعة…

قطار الفساد الفائق السرعة...كثيرا ما أخافني قطار الفساد الفائق السرعة، المكتظ بركابه الأوفياء الدائمين على مر العصور، الذي يفتح أبوابه في كل محطة إنسانية أو تاريخية  للوافدين الجدد و الكثر و المتلهفين للصعود إليه و الاستفادة من امتيازاته. و رغم كثرة زواره، يجد الوقت الكافي  ليسحق الأقليات التي ترفض الصعود فيه أو تهاجمه. إنه قطار لا دين و لا حزب و لا وطن له . قطار بمواصفات عالمية. قطار مخيف، يتغذى و يستمر بدعم الركاب المتزايد له، و في نفس الوقت لا يجد حرجا في ابتلاعهم و التنكيل بهم  متى داهمه خطر في الطريق.
و سط قرقعة الكؤوس، و الموسيقى الصاخبة، و الرقصات المثيرة، و أوراق البنكنوت المتناثرة، و الأحقاد المشتعلة، و الأوهام المتأججة، و الاشاعات المغرضة،  يغري أتباعه و يدعوهم للشرب نخبه و الابتهاج بقدومه و الدعاء له بطول العمر و القوة.
إنه قطار قوي، لا يرهب عالم و لا صانع و لا سياسي و لا حتى نبي. مات الأنبياء و العلماء و الفلاسفة و الثوريون و القادة و الكتاب و الفنانون، و  ظل الفساد ثابتا و  لم يضل طريقه.
في كل عصر، ينتشر الفساد و تتعالى أصوات بضرورة محاربته. و لكن لا الفساد تلاشى و لا الأصوات اختفت. فالخير و الشر كالتوأمين الملتصقين يغذي أحدهما الأخر.
الله سبحانه و تعالى أقام نظامه الكوني على الأضداد و على الميقات، فوحده الواحد الأحد من لا شريك و لا زوج له و وحده الحي الذي لا يموت. فالله سبحانه و تعالى أحل و حرم. و لكن شريعته ليست غاية في ذاتها و فالغرض منها هو الاهتداء إلى طريق الخير الحق و تجنب الوقوع في فخاخ الشر المنتشر في طريق العبد. فالأعمال بالنيات و بالخواتم و بالمقاصد.
فكلما انتابني الغضب و القنوط بما يحصل من حولي و بما أراه أمامي، أتذكر قصة موسى عليه السلام مع الخضر.
فقصة موسى عليه السلام مع الخضر مثيرة و ملهمة للتدبر في قواعد الكون، و للتفكير في معنى شمولية الخير و الشر. فبينما موسى عليه السلام كان يخطب يوما في بني إسرائيل. سأله أحدهم هل يوجد في الأرض من هو أعلم منك؟ فأجابه موسى بالنفي.فعتبه الله سبحانه على غروره و أخبره أن له عبدا أعلم منه.  ففوق كل ذي علم عليم و الإنسان مهما بلغت مكانته لن يمكنه أن يجزم بعلمه الغيب و بكل ما يقع من حوله. فالله وحده من يملك اليقين و القدرة. و هكذا شد موسى عليه السلام الرحيل يبحث عن الخضر ليتعلم منه ما يجهله. فيلتقيا و يطلب منه موسى عليه السلام أن يتتلمذ على يده، و لكن الخضر يخبره  أنه لن يستطيع أن يصبر معه و إذا أراد عليه أن يلتزم الصمت و ألا يسأل إلا حين يأذن له.
فبينما يمشيان على ساحل البحر، مرت بهما سفينة تعرفت على الخضر، فأذنت له بالركوب فيها. فلما رست السفينة بهما أغرقها الخضر. فلم يصبر موسى عليه السلام على ذلك و اعتبره نكرانا للجميل و سأل الخضر على فعلته و لكن الأخير ذكره باتفاقه فاعتذر منه موسى عليه السلام.
ثم مرا على حديقة يلعب فيها الصبيان. فجاء الخضر إلى أحدهم فاقتلع رأسه. فلم يستطع موسى عليه السلام أن يصبر على هذه الجريمة فاستنكر الخضر كيف يقتل نفسا زكية بغير حق.  فذكره الخضر بما وعده به موسى عليه السلام و بأنه أخبره بأنه لن يستطيع معه صبرا. فاعتذر موسى عليه السلام مرة ثانية من الخضر.
فانطلقا حتى وصلا إلى قرية أهلها بخلاء، أبوا أن يكرموهما أو يطعموهما. فباتا في العراء. فوجد الخضر جدارا كاد أن يهوى. فقضى الليل بأكمله يصلحه. و هنا قال موسى في نفسه، كيف أن القرية لم تكرمه و أهلها بخلاء و الخضر يتعب نفسه و يصلحه و يعيد بناؤه بدون أجر.
وقبل أن يفترقا، فسر الخضر لموسى عليه السلام  ما بدا له مفسدة و شر في البداية. فالسفينة كانت لمساكين بسطاء و  أراد أن يعيبها لأنه كان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة قصرا فخاف عليهم من بطشه. أما الغلام فأبواه كان مؤمنين و لكنه كان يحمل الكفر في قلبه فأراد أن يعوضهما الله بصبي أحسن منه. أما الحائط الذي بناه فكان يوجد وراءه غلامين مؤمنين لو وقع عليهما لماتا.
فالله سبحانه و تعالى حكمته في الكون عظيمة، و كل حدث يأتي في وقته المحدد له و لغاية لا يعلمهما إلا الله.
ففي أحيان كثيرة أشعر بالغضب و العجز. و لا تعجبني كثير من الأوضاع و أشعر بأن الفساد أضحى حزبا وطنيا معظمنا منخرط فيه أو متعاطف معه بقصد أو عن غير قصد، بعلم أم بدون علم.
و لكن عندما أمشي في الأسواق، و أتأمل في الناس، و أرى الأطفال يلعبون فرحون في الحدائق و في ملاعب القرب، و أرى المقاهي و المطاعم ممتلئة بالعائلات و الأصدقاء و هم يتحدثون. و الأسواق الممتازة ممتلئة عن أخرها و الكل يشتري، و السيارات أصبحت في متناول الكثيرين  و لم تعد معيارا للثراء كما كانت في الماضي. و المدارس الخصوصية و رغم غلائها لن تجد مكانا فيها بسهولة. و الفقراء لهم مساكنهم و يقضون عطلهم على قدر ميزانيتهم، و كثير من المأكولات لم تعد حكرا على الأغنياء كما كانت في الماضي. و عندما أتذكر مختلف المشاريع الكبرى، و ما تم إنجازه في السنوات الأخيرة،  وعندما أفكر في الأمن و الحرية التي ننعم بهما، و في قدرة المغربي على التعايش مع الاختلاف و احترامه و إنتاجه. تجدني أتساءل بيني و بين نفسي كيف يمكن أن نميز بين الفساد و التنمية و المصلحة العامة و بناء الوطن؟ و كيف يمكننا أن نحكم على كثير من الأمور ما دمنا لا نرى إلا قشورها؟ و هل من واجبنا و مسؤوليتنا أن نحكم أصلا؟

أمل مسعود







تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.