استطاع رئيس الحكومة مرة أخرى أن يفوت الفرصة على المشككين من ذوي الألسنة الحداد الأشحة في الخير وهم يصنعون الوهم ويصدقونه، حين ينفون على الحكومة أي نية في التشاور مع الأحزاب بخصوص الانتخابات، رجما بالغيب وادعاء لعلم لدني توحي شياطينه لهم بزخرف القول غرورا، حيث جرفنا سيل عرم من الادعاء المكذوب، كنا نحن وبقية خلق الله من ساكني هذا الوطن ضحايا له بلا سيف ولا غمد، إلى أن أتى النبأ اليقين الذي هو أصدق إنباء من الكتب في حده الحد بين الجد والمزاح الذي يشبه الضحك على الذقون.
نبأ جاء صارما بتارا، فهل يملك كل أولائك المرجفون ذرة من الشجاعة لكي يقرؤوا شيئا من بيان الخبر المتعلق بفتح التشاور مع الأحزاب حول رزنامة الانتخابات تشريعا وإجراءات، أم أن العيون المعتادة على النظر من وراء أحجبة السواد الكثيف، المتوشح بالحقد، والموغل في الضغينة، ستصر على المكابرة مجددا، وستعلو أصوات العدم الجامح لتبخيس اللحظة وتجريدها من معانيها، وستستعير كل الأقنعة الموهمة ادعاءً الانتماء إلى خندق الديمقراطية والحداثة ومعاداة التفرد والاستبداد وأخيه الشقيق الفساد.
إن الرسالة السياسية التي يستوجب المقام التقاطها بلا تأخير ولا تلكؤ، بعيدا عن حسابات المواقع وتوقعات محاصيل الاقتراع المرتقبة مواعيده، هو هذا التوجه نحو الإشراف السياسي للحكومة على الانتخابات باعتبارها من مشمولات متن التزاماتها مع من صوتوا عليها، وتنزيلا لمبدأ دستوري شكل عنوانا للحظة سياسية فاصلة من تاريخ المغرب، بربط المسؤولية بالحساب، وترتيب الجزاء على العمل، كما أنه يترجم بقوة الوقائع دعامة أساسية في بناء البرنامج الحكومي الذي ارتكز في صياغة معماره على مبدأ التشاركية.
لنا أن نتصور حجم القصف الذي كان يعد له لو أن جهة أخرى غير رئيس الحكومة باشرت هكذا مشاورات، رغم أن الأمر لو حصل لن يدرأ عن الحكومة مسؤوليتها ولن يلغي تبعاتها عنها، أما وأن الأمر قد أخرج في هذه الصيغة فان ألسنةً ستلزم جحورها، وسيوفا من ورق ستسكن أغمادها إلى حين تدبر تعلات للتبخيس، ومبررات للتيئيس.
فإذا كانت النزاهة مطلبا حتميا للشعب المغربي ومؤسساته وعلى رأسها الملكية، فإن الرهان عليها وقبل كل شيء رهان ذاتي معلق بأهذاب كل الأحزاب السياسية التي تشكل المشتل الأول للديمقراطية، ذلك أن خطاب تاسع مارس حدد بلا لبس أفق المغرب، والذي لن يكون إلا أفق الحداثة والديمقراطية بالضرورة، وأن النكوص عن هذا الأفق هو ارتهان إلى المجهول، وعبث بمقتضيات التوافق الذي وقع به المغرب ربيعه، فكل احتكار لملكية الدفاع عن نزاهة الانتخابات هو في الحقيقة احتقار لبلد بكامله ودوس على ميثاق التعاقد بين الشعب المغربي ولحظته السياسية بحذاء المكابرة والعجرفة.
إن سؤال النزاهة لا يسائل الدولة أو مؤسستها التنفيذية فقط بقدر ما يسائل النخب ومؤسساتها الحزبية، ذلك أنه بدون القطع مع ثقافة الريع في تدبير الشأن الحزبي، وإحلال منطق التداول المؤسس على الديمقراطية الداخلية وثقافة المؤسسات، ومعايير الكفاءة والاستحقاق، وتنزيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة داخل التنظيمات الحزبية، إنه بدون ذلك سترتد الرسالة إلى أصحابها بدون جواب ولا تجاوب، وسنعمق بوعي أو بدونه ثقافة اليأس والحياد السلبي الذي تؤشر عليه أرقام المقاطعة والعزوف. إننا نلح على أن مبتدأ وخبر النزاهة وما في معناها من مفردات، إنما يجد معناه في فحوى سلوك الفاعل السياسي، ذلك أننا في أحزابنا إما إن ننتج طقسا ينتمي إلى فضاء اللحظة السياسة بمعانيها المنفتحة على أفق المغاربة، أو أننا سنحفر بإرادتنا قبرا لوأد حلم كنا قاب قوسين من تحقيقه؟!! فهل تستطيع الأحزاب الفطام عن الاستنجاد بطابور الأعيان القابلين لكل التموقعات مادامت كلها تؤدي الى جنة الكراسي بلا التزام ولا تعاقد ولا محاسبة ؟؟ هل تستطيع الأحزاب أن تحول الانتخابات إلى مدرسة للوطنية يتنافس فيها المؤهلون والأقوياء في امتحان الحب لهذا الوطن، وتجسيد ذلك الحب في أعمال دؤوبة، وتضحيات عالية ؟! هل تستطيع الأحزاب أن تدين أي تدخل في عمليات الاختيار بدءً من منح التزكيات وانتهاء بصناديق الاقتراع ولو كان هذا التدخل في صالح بعض مرشحيها ؟! هي أسئلة حارقة جوابها في علم الغيب وما ستأتي به الأيام المقبلة، لكننا رغم ذلك لابد أن تستفزنا هذه الحساسية الرهابية من كل خطوة قد تحسب لصالح الحكومة، بدعوى أنها حملة انتخابية، فكل حركة وكل سكون يوحي إلى البعض بكسب انتخابي لا وجود له إلا في مخيلاتهم، يجعلها تدوس الوطن في حلبة نتنة لصراع وهمي لا عائد له إلا إرضاء النزوات، ونفث أوهام الحقد، عملا بمبدأ عليَّ وعلى أعدائي، ولعل آخر ابتكارات هذا النهج العدمي النشأة والارتقاء، تأويلاته المتعجرفة والمكابرة لحديث رئيس الحكومة في الجلسة الأخيرة الشهرية بمجلس المستشارين، فتنويهه بعمل المرأة في البيت مغازلة لكتلة انتخابية تحتضنها أسوار بيوتات المغاربة، ووعده للأرامل بدعم مباشر حملة انتخابية وسط مؤسسة دستورية. وقبل هذا وذاك لا ضير في إيقاف كل إصلاح سينتج عنه عائد انتخابي بدءً بإصلاح المقاصة، والإعلام، والعدالة وانتهاء بتدشين التشاركية المدنية تنفيذا لالتزامات دستورية. إنها باختصار عقدة ” الانتخاباتوفوبيا” تقضم ملامح السياسة في هذا البلد، وتلد الرداءة في أبشع صورها، وتعمق القطيعة بين المجال العام ومرتفقيه احتجاجا وإدانةً، فإلى متى سيستمر هذا الوضع ؟!!
محمد عصام
تعليقات