الجمعة 11 أكتوبر 2024| آخر تحديث 10:47 01/11



“إيناير”٬ أو العرف الأمازيغي الذي أضحى منظومة مرجعية

ارتبطت الحضارات البشرية الضاربة بجذورها في عمق التاريخ ٬ ومن ضمنها الحضارة الأمازيغية٬ بالنشاط الزراعي الذي شكل بالنسبة لهذه الشعوب القديمة العمود الفقري لوجودها٬ والعماد الذي تأسس عليه كيانها٬ كما كان لهذا النشاط الإنساني الفضل الكبير في إكساب هذه الحضارات هوية مميزة على امتداد المسار التاريخي للبشرية.  ومما لا شك فيه أن الحاجة التي ساقت الإنسان إلى ابتكار العديد من الممارسات ذات الارتباط بالنشاط الزراعي٬ واكتشاف بعض أسرار استمرارية الحياة داخل الجماعة٬ جعلت العديد من المجتمعات٬ كل حسب قدرته٬ تساهم في مجال البناء الحضاري٬ الذي أصبح يشكل اليوم موروثا إنسانيا.

   وتندرج ضمن هذا السياق الحضارة الأمازيغية٬ خاصة في شقها الزراعي الذي عمر لعدة قرون٬ حيث لا زال المجتمع المغربي يزخر بتجليات شتى للعديد من الأنشطة التي مارسها الإنسان الأمازيغي منذ أن استوطن شمال أفريقيا٬ وشكلت هذه الممارسات عرفا متوارثا عبر الأجيال٬ واستطاعت في الوقت الراهن أن تنصهر في صلب التشكيلة المركبة للمجتمع المغربي.

   ومن جملة البراهين الدالة٬ بما لا يدع مجالا للشك٬ على انصهار هذا الموروث الحضاري الأمازيغي في بوتقة المجتمع المغربي المتعدد الروافد والأعراق٬ هناك العديد من الأنشطة الزراعية التي يتعاطي لها الفلاحون في مختلف مناطق المغرب٬ من سهول وسفوح الجبال والمجال الصحراوي وغيرها٬ وذلك في أوقات محددة٬ وكأن الأمر يتعلق ب”اتفاق تلقائي” بين المزارعين.

   والاختلاف الوحيد الذي يمكن رصده في هذا السياق٬ هو تنوع الألسن عند تسمية المحاصيل٬ أو المواقيت٬ أو أدوات العمل أو غيرها من المفاهيم التي تتشكل منها المنظومة العرفية المتكاملة التي تتأسس عليها ممارسة النشاط الزراعي في المجتمع المغربي منذ عهود خلت.

   ولعل أول كلمة تتبادر إلى الذهن في هذا الإطار هي مصطلح “إيناير”٬ وهو عبارة “كلمة مفتاح” في القاموس الحضاري الأمازيغي٬ إذ يحيل هذا المصطلح على التأريخ للسنة الأمازيغية التي تصادف ليلة 13 يناير من السنة الميلادية٬ حيث يصادف هذه السنة مرور 2963 سنة على التقويم الأمازيغي.

   وكما أن “إيناير” يشكل موعدا مرجعيا في تحديد تعاقب الفصول ومباشرة عمليات الحرث لدى الأمازيغ٬ فإن “يناير”٬ الذي هو أول شهر معتمد في التقويم الميلادي٬ يعتبر كذلك مؤشرا زمنيا مرجعيا بالنسبة للمزارعين المغاربة غير الناطقين باللسان الأمازيغي.

   وبناء على ذلك٬ فإن “يناير” أو”إيناير” يشكل معطى زمنيا٬ يتأسس عليه قاموس متكامل من المصطلحات والمفاهيم المرجعية ٬ وتنبثق عنه مجموعة من الأعراف والتقاليد المترسخة في المجتمع المغربي التقليدي٬ خاصة في القرى والأرياف ٬سواء في أوساط الأمازيغ أو العرب٬ وحتى إبان الفترة التي كان اليهود يتعايشون بكثرة مع المسلمين داخل المجتمع المغربي.

    ومن جملة هذه المصطلحات التي لا زالت سارية حتى يومنا الراهن٬ وتشكل مواقيت مرجعية بالنسبة لعمل المزارعين فهناك “الليالي”٬ و”الليالي حيان”٬ و”العنصرة” ٬ و “السمايم” وغيرها. وإذا كان الأمازيغ في المناطق الجبلية مثلا يتلفظون بتعبير “تكشم الليالي”٬ نجد الناطقين باللسان العربي يقولون مقابل ذلك” دخلت الليالي”.

   ويروي الشيخ عبد الكريم الشجعي وهو من مواليد 1926 بمنطقة إمغراب ضواحي تنغير أن “الليالي”٬ حسب التقويم الفلاحي الأمازيغي العربي العبري٬ تبدأ في العاشر من شهر دجنبر من كل سنة ٬ وتستمر حتى العشرين من شهر يناير.

   أما “الليالي حيان” فتبدأ في الأيام الثلاثة الأخيرة من شهر فبراير٬ وتستمر طيلة الايام الأربعة الأولى من شهر مارس٬ حيث تمتد لفترة 8 ليال و7 نهارات. وتتميز ببردها القارس الذي يكون وقعه صعبا بالنسبة للأشجار المثمرة٬ حيث يمكن لتأثيرها السلبي على الغلال أن يمتد إلى غاية 17 مارس. كما باستطاعة المزارعين خلال فترة “الليالي حيان” سقي القمح دون غيره من المزروعات الأخرى مثل الشعير.

   ويقابل “الليالي حيان” من ناحية الامتداد الزمني ما يسمى ب”العنصرة” خلال فصل الصيف٬ والتي تنعت ب “لانصرت” باللسان الأمازيغي ٬ ومدتها 7 أيام تبتدأ انطلاقا من 15 يوليوز. ومن مميزاتها يقول الشيخ عبد الكريم الشجعي أن الرياح تتوقف عن الهبوب٬ فيلجأ الفلاحون إلى المبيت في البيادر٬ كما تشرع خلالها بعض الغلال الصيفية في الظهور مثل التين والعنب.

   بينما يقابل 40 يوما من “الليالي” إبان الفصل البارد٬ ما يصطلح عليه في القاموس العربي والأمازيغي ب “السمايم” التي تمتد بدورها 40 يوما٬ تبتدأ في 5 يوليوز٬ وتنتهي في منتصف شهر غشت من كل سنة. ومن مميزاتها الوفرة في غلال الفاكهة الصيفية٬ ما لم يتأثر الموسم الفلاحي ب”الجريحة”.

   وحسب التقويم الفلاحي المغربي الأمازيغي العربي العبري أيضا٬ فإن عمليات الحرث ٬أو “إكرز” بالأمازيغية ٬التي يباشرها المزارعون الذين يمتهنون للفلاحة التقليدية لا تقتصر على صنف واحد بل هي أصناف مختلفة.

   وأول هذه الأصناف هو “القالب” أو ما يعرف ب”الحرث البكري” الذي يبدأ مع النصف الثاني من أكتوبر لتنتهي فترة هذا الصنف مع نهاية هذا الشهر. لتليه عملية الحرث المعروفة ب”الشولة” التي تمتد بدورها أسبوعين٬ يليها الحرث الذي يصطلح على تسميته ب”النعيم”٬ وبعد انتهاء الفترة الزمنية لهذا الأخير مع نهاية نونبر٬ يحل موعد الحرث المعروف ب “البولدة” وهذا الصنف من الحرث يصادف فترة “الليالي”٬ ومن خاصياته أن الأرض المحروثة تحتفظ بالبذور في التربة حتى شهر يناير لتظهر نواتها الخضراء.

   وإلى جانب زراعة الحبوب ٬فإن “إيناير” يشكل أيضا توقيتا مرجعيا بالنسبة لعدد من الزراعات الأخرى التي يتعاطى لها الفلاحون المغاربة عربا وأمازيغ في السهول وفي مجاري الوديان وسفوح الجبال٬ ومن ضمنها على سبيل المثال لا الحصر هناك زراعة الفول (إيباون) وهو أصناف متعددة. و”الفصة” التي تزرع في نفس وقت زراعة الشعير(تومزين) خلال شهر أكتوبر. والذرة(أمصري) وهي صنفان أولهما البكرية التي تزرع في مارس٬ثم التي تزرع في يونيو وهي ذات جودة ممتازة.

   كما يشكل “إيناير” بالنسبة للمجتمع الزراعي المغربي مؤشرا زمنيا لإحياء بعض العادات٬ والتعاطي لبعض الأنشطة المرتبطة بدورة الحياة في المجتمعات القروية من قبيل إعداد حاضنات البيض الطبيعية بعد انتهاء فترة “الليالي”٬ إلى جانب تهييء العديد من الأكلات الشعبية الأمازيغية التي تختلف من منطقة لأخرى مثل “العصيدة”(تاكلا)٬و”الكسكس بسبع خضاري”٬و”البركوكس”٬و”الكليلة” وغيرها من الأكلات الشعبية التي عادة ما يرتبط إعدادها وتناولها جماعة ببعض الاساطير والحكايات المترسخة في المخيال الشعبي الأمازيغي.

   ومن حسن الحظ أن العديد من مثل هذه الطقوس والممارسات ذات الأصل الأمازيغي ظلت محفوظة خلال قرون متتالية لدى بعض الفئات من المجتمع المغربي وذلك بشكل فطري. وقد أصبح من الواجب العمل في الوقت الراهن على حمايتها من جميع أشكال التحريف أو الضياع٬ لا سيما وأنها تشكل في جزء كبير منها واجهة مشرقة من أوجه التنوع الحضاري الذي ميز المجتمع المغربي على مر التاريخ.