الخميس 28 مارس 2024| آخر تحديث 12:45 07/27



تحولات الحركة الإسلامية

تحولات الحركة الإسلامية

تيسر لي بفضل الله حضور الملتقى الجهوي الصيفي لقيادات حركة التوحيد والإصلاح بجهة الشمال الغربي الذي انعقد بطنجة أيام 22-23-24 يوليوز. كان حضوري باسم طلبة الحركة (منظمة التجديد الطلابي) بمعية طالبين آخرين. كان اللقاء فرصة ثمينة لا تتكرر للوقوف على أين وصلت ذهنية قطاع مقدر من الحركة الإسلامية. حيث جسد بحق أجواء قلب الحركة الإسلامية. ففرق كبير بين أن تكون ذا دراية فقط بما يعتمل في العقل الحركي الإسلامي القيادي الوطني المُنظر وبين أن تنفذ إلى تمثلات القيادات المنطقية الميدانية ورؤيتها لمختلف لقضايا الهامة الشائكة. بالطبع اللقاء داخلي وله خصوصية؛ لهذا فتفاعلي عبر هذه الأسطر مجرد تسليط للضوء على نقط تثار حول الحركة الإسلامية وتُشكل نقاشا في أوساط المثقفين المهتمين بها.
أول شعور ساورني في خضم فعاليات الملتقى هو مدى جهل العديد من المثقفين بتحولات الحركة الإسلامية. إذ مازال بعض أدعياء الموضوعية والحوار غير قادرين على تجاوز مسلمات كانت موضوعة على طاولة المحللين للظاهرة الإسلامية منذ ميلادها.
جماعة من الناس رأت أن ثمة في واقعها ثُلمة وأن المدخل للإصلاح وعمود نجاحه هو الدين. تيقنت أن سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة هو الحياة ل”إقامة الدين وإصلاح المجتمع”. تعلو وجوه أفرادها بسمات وضاءة. لا تطرف يبدو ولا إرهاب يعلو ولا غلو يغلي.. وإنما اليقين بأن هذا هو الطريق. طريق العمل المدني السلمي التراكمي التراحمي الذي يتوسل خطبة الجمعة والنشاط في الجمعية والمحاضرة في دار الشباب والمقال في الجريدة و(الآن) التعبير عبر الفيلم القصير لتقريب من تعثر من الصلاة ومقاومة المخدرات وتذكير من غفل عن ذكر الله وغير ذلك من عناوين”الوسطية والاعتدال”. جمهور من هذه الجماعة كافر بالسياسة ومغانمها (رغم أنه قريب من حزب سياسي متألق في هذه اللحظة من تاريخ الوطن)، أحيانا يبدي امتعاضه من سلوك بعض “إخوانه” في الحزب مسلك الترشح اللامحدود ويبدي أسفا لأن أبناء الحركة الإسلامية بدأوا يغرقون في الدنيا وينسون الرسالة.
طبعا لكل واحد منا ملاحظات. فتجربتنا ومعارفنا وتأملاتنا وقراءتنا تُسعفنا في أخذ المسافة من أي كلام يقال أو دعوى تُرفع. لكن ينبغي قبل التحليل وقبل النقد والتجريح أن نأخذ الواقع كما هو، أن نأخذ الآخر المأخذ الذي يتخذه من نفسه قبل أن نقف منه الموقف الذي نريد. ينبغي أن نتصور الآخر كما يصور نفسه قبل أن نميز في تصوراته بين العلم والإيديولوجيا وبين الحقيقة والمجاز وبين الأماني والحقائق.. وهذه هي الحلقة المفقودة في عمل جوقة “الباحثين في شؤون الحركة الإسلامية”؛ فمعظمهم لا يكتفون بجعل ما في واقعهم الذهني عن الحركة الإسلامية مجرد إمكان وإنما يحسمون النتيجة سلفا ويعتبرونه مطابقا لما في الواقع الخارجي. لا نصادر حق أي واحد في تحديد فرضياته، لكن العمل العلمي كما هو معروف يقتضي اختبار الفرضية قبل النطق بصحتها.
نأتي إلى الملاحظة المركزية التي راودتني في خضم أشغال الملتقى. تتصل بتحول هام تقبل عليه الحركة الإسلامية –طبعا لا نقصر هذا الوصف على التوحيد والإصلاح فقط ولكن لغرض إجرائي هي المقصودة فقط بهذا الاسم في هذا المقال- وهو إدراج المواد العلمية (العلوم الشرعية خاصة) ضمن برامج ملتقياتها.
كان الأستاذ فريد الانصاري رحمه الله وهو يضع الحركة الإسلامية تحت المجهر يُصرح بأن عمق أزمتها كامن في غياب القيادة العلمية في صفوفها الأولى. ليس من الضرورة أن نتفق مع العلامة الأديب. ولكنني خرجت من الملتقى بخلاصة مفادها أن الحركة الإسلامية مرت بثلاثة مراحل:
أولا؛ مرحلة الفكر الحركي. هي مرحلة تاسيسية مغرقة في إيديولوجيا عاتية ككل الحركات الاجتماعية في نشأتها. هي مرحلة البحث عن أنصار الفكرة والتحشيد والتعبئة. لهذا كانت البرامج تشير بالبنان إلى كتابات الشهداء سيد وحسن وعبد القادر وغيرهم لأن أثرها في النفوس قوي ولا ينمحي بسرعة. وهي كتابات تعبوية حركية تملأ النفوس بالزهو بالحق الذي وصلت إليه وتتمنى توظيف ما تملك من غال ونفيس لترجمة الأفكار وترنو بحرارة إلى عيد البديل الحضاري الذي تحمله.
الفكر الحركي فكر غير علمي، غير دقيق. هو بيان أو “مانفيستو” على غرار البيان الشيوعي. يؤسس للقطعيات ويزرع بذور عقلية مقفلة وذهنية تؤمن بإطلاقية أفكارها. هو فكر جذاب خاصة إذا كان في قالب أدبي رائع كقوالب الشهيد سيد. لهذا فمن له صلة قوية بأبجديات التفكير العلمي –حتى في العلوم الشرعية- سيظهر توترا متناميا تجاه هذا الفكر. وأغلب قيادات الحركة الإسلامية في العالم من المعاهد العلمية التقنية تلقفت منذ نشأتها هذا الفكر لأنه بعيد عن تعقيدات علم الأصول وغيره. ولهذا أطلق الأستاذ فريد صرخته مُثربا على الحركة الإسلامية –ما فهم هو- أنه إزاحة للقامات العلمية من صفوفها الأمامية.
ثانيا؛ جاءت بعد ذلك مرحلة الفكر الإداري (أو فكر التنمية البشرية المستند إلى علم الإدارة والتدبير Management). يصعب التأريخ لها بدقة. لكن المؤكد أنها بعد اشتداد العود والتوسع واستكمال عهد بناء القاعدة. وأُرجح –من دون مجازفة- أن حوالي 2006 قد يكون تاريخ البدايات الأولى لتعاطي الحركة الإسلامية مع هذا الفكر. فاعتماد أسلوب التخطيط الاستراتيجي وصياغة المخطط الاستراتيجي أمر تم في مؤتمر 2006.
أرجع الباحث باتريك هايني صاحب كتاب (إسلام السوق. ترجمة عومرية سلطاني. ط1 : 2015) بدايات ظهور هذا الفكر في العالم العربي  إلى مطلع الثمانينات. يقول: بدأ كل شيء في العالم العربي في أوائل الثمانينات عندما انتقل عدد من الإسلاميين العراقيين والكويتيين والفلسطينيين لمتابعة دراستهم في الولايات المتحدة الأمريكية، من بينهم: طارق السويدان، أحمد محمد الراشد، هشام الطالب ومحمد التريكي ثم نجيب الرفاعي وعلاء حمادي. لقد عاد هؤلاء في أوائل التسعينات مُحملين بالفكر الإداري المنتشر بقوة في كليات الاقتصاد الأمريكية. (ص:140)
في البداية تم تحميل هذا الفكر إلى المجال الاقتصادي والترويج ل “المال: عبره سنؤثر ونخدم الإسلام”. يورد الكتاب مثالا ل”إسلامي” يقول: أريد أن أكون رجل أعمال مهم وذا ثروة مهولة. وأريد التأثير في المجتمع بفضل هذه الثروة وتلك المكانة. ويستطرد مضيفا هذه النصيحة الحكيمة: هل تظن أنهم سيستمعون إليك لأنك قرأت َ هذا الكتاب أو ذاك؟ يجب أن تظهر علامات النفوذ، سيارتك، اهتمامك بمظهرك، ومداخيلك.. (ص: 133)
وللأسف الشديد فقد عاينتُ بنفسي  بعض تجليات هذا الفكر – وإن كان الأمر ليس بنفس الأسلوب- في مجمل برنامج أكاديمية إعداد القادة السابعة صيف 2015 بتركيا. مما دعا أحد الأصدقاء المغاربة –ابن الحركة الإسلامية- الذي لا يتفق مع ذات الفكر أن يعبر لي ببلاغة: هذا النموذج وهذا الفكر؛ صحيح أنه متميز وصالح لخلاصنا الفردي. لكن قضية تحررنا الجمعي (سؤال التحديث والنهوض)، في إطار نسقه، على كف عفريت يا صاحبي !
بعد ذلك انتقل التنزيل من مجال المقاولات والشركات إلى التنظيمات والجمعيات والهيئات. في الملتقى الجهوي الذي كان مناسبة هذا الحديث؛ كان أحد الإخوة يشير بفرح وسرور  يُحسد عليهما إلى كون “حركتنا المباركة” تمكنت بفضل فعالية تنظيمها الإداري من أن تنافس الشركات! كان ذلك تعليقا على أحد العروض التنظيمية.
هذا الفكر الإداري إذا اقترن بالتنظيم يصير موتورا بأعداد الأنشطة وكمية المؤشرات ويختزل الفعالية في هذا الجانب. علما أن العمل التربوي لا يُقاس أثره بهذا الأسلوب. لكن في غياب طريقة لقياس الكيف والنوع نعكف على المؤشرات الكمية لتُقربنا من مردودية أعمالنا؛ هكذا يصرح أحد المسؤولين التنظيميين في كلمته بنفس الملتقى.
يعرف سؤال البديل الحضاري تراجعا ملحوظا في تطبيقات الفكر الإداري. كما أن العمق الفكري والمعرفي يخف. قد يقول قائل: وما ذنب الفكر الإداري فهو مجرد وسيلة وصلت إليها الخبرة الإنسانية في مجال التسيير والتنظيم وتُمكن من نتائج أفضل؟ صحيح هو وسيلة لكن يحمل مضمونا فهو فكر ولا بد أن يكون متحيزا. تماما مثل الدولة الحديثة؛ إذا نظرنا إليها فهي مجرد نظم ومؤسسات لتنظيم الحياة العامة، غير أن الراسخين في العلم يدركون أن الدولة الحديثة فكرة وثقافة تثوي نموذجا معرفيا خاصا بها وتريد من الإنسان أن يكون كيت وكيت..  إن من يعتقد بحياد الوسائل  واهم؛ فكل وسيلة تحيل بشكل غير مباشر على غاياتها.
ولا يخفى على المتابع من الداخل أن هناك تراجعا مهولا في الصلة بالكتاب في صفوف الأجيال الصاعدة للحركة الإسلامية. ومرد ذلك هو بالأساس راجع إلى التداعيات السلبية للفكر الإداري.
صدق من قال: إن المأسسة هي المقبرة. لكن ما المعمول في عالم بات لا يعترف بغير المؤسسات؟
ثالثا؛ لعل هناك أصوات نابهة انتبهت إلى التداعيات السلبية للفكر الإداري وإلى كون الحركة الإسلامية تحفر قبرها بيدها من خلال التعاطي غير النقدي والمكثف معه. وبدا أن مرحلة الفكر الحركي لا مكان لها في الحاضر والمستقبل فهي مرتبطة بزمن الصبا. وليس هناك ملجأ سوى استدعاء الفكر العلمي المُغيب.
الفكر العلمي هو الذي يستند إلى الأصول والقواعد قبل تحرير الكلام بسرعة في أي مسألة من المسائل. تشهد الحركة الإسلامية صحوة مقاصدية مشهودة لا شك أنها تندرج في هذا الإطار. فتحرير المقال في أي شأن من الشؤون تحرر من التفاصيل والجزئيات و ارتمى في أحضان الأصول والمقاصد والكليات.
لعل المحطة الثانية في هذه المرحلة هي توظيف العلوم الاجتماعية والإنسانية. فبعد حسم العديد من القضايا المستشكلة والشائكة والمثيرة خاصة تلك التي يعج بها التراث (خاصة التراث السياسي) ستبقى الحاجة ماسة إلى تعميق الصلة بالتراث الإنساني الغني قصد التعاطي الإيجابي النقدي معه واستثمار نتائجه. هذا رغم أن هناك أصوات ترتفع قائلة كلاما يفيد أنه من العسير إحداث نقلة نوعية في العلوم الشرعية (رغم هذه الصحوة المقاصدية) تستجيب لتحديات العصر ولا تخاصم مقاصد الشرع بدون استثمار معطيات وفتوحات العلوم الإنسانية خاصة الأدوات التحليلية.
تبقى الإشارة في الختام إلى أن تقسيمنا لهذه المراحل مجرد وجهة نظر. كما أنه بالإمكان أن نجد تداخلا بين مرحلتين. فالظاهرة الإنسانية من الصعب حدها بمراحل فهي تنفلت وتستعصي على كل عمليات الضبط والتنميط. ويبقى تأثير السياسي على بنية الفكري حاسما في كل مرة. ولا شك أن الحركة الإسلامية في هذه العُشرية في مفترق الطرق. ودرس التاريخ وسننه خير دال على المفيد لأن الزبد دائما يذهب جفاء وما ينفع الناس دائما  يبقى في الأرض.

أيوب بوغضن







تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.