الجمعة 19 أبريل 2024| آخر تحديث 11:59 07/05



وطني ليس حقيبة

وطني ليس حقيبة

للعالم الأزرق رجالاته الذين يترصّدون كلّ خطوة يخطوها مدبّرو الشّأن العامّ بهذا البلد، عوضا عن كساد الأحزاب وفقدها الكثير من معانيها النّبيلة وفعاليتها التّدبيرية ، يحزنون ويفرحون، ينتقدون ويساندون، ويدينون ويبرؤون ويصدرون أحكاما لا تقبل الاستئناف.

في أيّام النّاس هذه، طفا على السّطح قانون  يقضي بمنع صنع الأكياس من مادّة البلاستيك واستيرادها وتصديرها وتسويقها واستعمالها، بعد أن دخل حيّز التّنفيذ مطلع يوليوز الجاري، ورافقته إشهارات وحملات على مستوى الإعلام العمومي تحت شعار “زيرو ميكا”، في الوقت الذي تردّدت الأخبار باستيراد آلاف الأطنان من أزبال الطّليان لحرقها هنا، مع ما يحمله ذلك من صفقات مشبوهة وأمراض قاتلة، كأنّنا إزاء مافيا “كورونا” التي تورّطت في مثل هكذا أحداث ببلدها، فصرنا الآن مهزلة حقيقية أمام الرأي العامّ الدّولي، وصارت سيادة بلد ذي  حضارة تحرّرية عريقة على المحكّ دون أن يكون للأمر ما بعده، وهو ما يؤكّد  الانفصام النّكد الذي تعيشه النّخبة السّياسية صاحبة الحقائب بين القول والفعل، ذلك أن الحادثة تنمّ عن عدم جدّية خطابات (الميكا) حول حماية البيئة قبل أن يحلّ علينا مؤتمر الأرض والمناخ (كوب 22).

ورغم أنّ كلّ خطوة يريد صنّاع القرار الإقدام عليها في غفلة عن الجميع، ينشئون لها معارك جانبية تخفي الحقيقة، ويغطّون عليها بشيء تافه يشغل النّاس، كعادة مألوفة في الصّنعة السّياسية، فإنّ سكّان الفضاء الأزرق سجّلوا مواقف صائبة، إذ لم يدعوا الأوهام تطفو على الحقيقة، فأطلقوا حملة كبيرة، وظفت فيها عبارات ساخرة، ورسومات بعضها يُضحك وبعضها يُبكي، فثمّة من تساءل عن الحلّ أمام “دوخة” الحافلات، وعن أحوال “القفة” محلّية الصّنع كبديل لل”ميكا” التي سيعدمها القانون (15.77)، كما عبّر بعضهم عن استنكاره لتكلفة الأكياس البديلة، وأشياء أخرى كثيرة.

وهي جميعها مواقف لها أهمّيتها في أيّ نقاش مجتمعي وإيصال الرّسائل يمنة ويسرة، لكنّ الأهمّ من هذا كلّه بعض الدّعوات التي أعادت الشّعار القديم الجديد للواجهة، وهو في الحقيقة شعار مثالي يجب أن يتمّ تفعيله بهذا البلد عوضا عن جعله يافطة على كلّ قطاع عشّش فيه الفساد وباض وفرّخ.

من الرّائع جدّا أن يُحارب كلّ ما من شأنه أن يفسد علينا بيئتنا بجدّية وتفان، لكنّ أبناء هذا البلد لا يجمعهم لحدود اللّحظة مع “الميكا” إلاّ الخير والإحسان، حفظت متاعهم في الطّرقات ومحلاّت التّجارة، وباعها صغيرهم في الأسواق التّقليدية، وكانت مصدر عيش الكثيرين، رغم ما يعتريها من سوء. لكنّ ما يؤلمهم أكثر، ذلك الفساد المُرعب في أبشع صوره بقطاعات حيوية، وهو أهمّ تحدّ يجب مجابهته في كلّ ميادين الحياة، حتّى تستقرّ الأمور على أفضل حال لصالح البشر والعمران.

ففي قطاع القضاء مثلا، لا نكاد نجد لل”ميكا” أثرا، بقدر ما نصادف في بعض الأحيان أحكاما غريبة، وإجحافا في توظيف سلاح القضاء، لجرّ الخصوم نحو الزّنازين وهم أبرياء، فيما يعتري المواطن البسيط خوفا رهيبا حين يتردّد على ردهات المحاكم ويغشى أقسامها.

وفي قطاع الصّحّة، تعدّ المستشفيات أكبر صورة معبّرة عن قيمة المغربيّ الحقيقية عند من يتولّون شؤونه، فالدّاخل إليها مفقود والخارج منها مولود، بفعل السّمسرة التي تستهدف الإنسان في كلتا حالتيه حيّا وميّتا، وتجعله موضوع ربح مضمون في زمن طغيان القيم المادّية.

وفي التّعليم، يسجّل المواطنون من الدّرجة الأولى والثّانية نزوحا جماعيا نحو القطاع الخاصّ بكلّ ما يحمله من عيوب، تجنّبا للوقوع بين أحضان مدرسة عمومية مترهّلة، تُجرّب فيها السّياسات التّعليمية الغريبة كأنّها فأر مُختبري..

فهل “الميكا” هي التي أوصلتنا إلى هذا الحدّ؟

أكيد لا، بل الفساد فعل، وحين سنتخلّص منه، ستختفي “الميكا” من حياتنا بشكل تلقائي، وسيستحيي الرّجل الأبيض من طرق أبواب البلد للاستئذان في دفن فضلاته القاتلة، وسنتوفّر على نخبة سياسية قادرة على مقارعة التحدّيات العالمية في أحلك الظّروف، بعيدا عن الصّفقات المشبوهة والممالآت الخفيّة، وسيصير الوطن في أذهان أبنائه مشتلا رحيما بهم لا “حقيبة” يحملون فيها آلامهم وآمالهم إلى ضفاف البحار مع لاجئي الحروب والنّزاعات، وهو ما فطن له “محمود درويش” في عصره فاعترف:

“آه يا جرحي المكابر

وطني ليس حقيبة

وأنا لست مسافر

إنني العاشق، والأرض حبيبه”.

بقلم : أحمد إدصالح

 







تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.