الجمعة 29 مارس 2024| آخر تحديث 11:45 04/27



قليل من الخبز..، وقليل من العدل أيضا

قليل من الخبز..، وقليل من العدل أيضا

حالة نفسية غريبة تلك التي اعترت “مي فتيحة مولات البغرير”، قبل أن تصبّ “الدّوليو” على ذاتها، وتحرق الجسد الذي طالما سهر على إعداد الفطائر وعرضه على “كروسة” بسيطة علّها توفّر لقمة عيش فلذة كبدها، وتقيها ذلّ السّؤال والمهانة في مجتمع بدا أكثر وحشيّة بعد التّحوّلات الاقتصادية السّريعة التي تغزو عالمنا الرّأسمالي السّائل.

ها هي الصّور القادمة من “أولاد امبارك”-القنيطرة، تحمل الآلام والآهات، وتصوّر عالما مليئا بالقتامة واللّارحمة، وترسل إشارات سلبية عن المستقبل الذي نفترضه في مخيالنا بين الفينة والأخرى، وتشدّنا للوراء كلّما همّ أحدنا التقدّم خطوة نحو الأمام، وتبقينا في خضمّ حلم نخشى أن نستيقظ منه فجأة ودون سابق إنذار.

أولسنا في  مغرب القرن الواحد والعشرين؟، ألسنا من قطع مع “الحكرة” التي يحسبها رجل السّلطة تاجا فوق رأسه كلّما وجد لذلك سبيلا؟، ألسنا من بعث نموذجا في الدّيموقراطية في محيط ملتهب يتداعى فيه البنيان والإنسان؟، هكذا سأل صديقي ومضى..

هي ذي حالة معقّدة تحكي في صمت واقعا نحاول حجبه بالشّعارات، دون أن نقطع معه، ونحاول التّعايش في تناقض دون أن نحسّ بذلك، وما فتئ هذا الواقع يحكي المرارة، ويؤكّد استحالة وضع رجل هنا وأخرى هنالك.

إنّ بناء دولة المؤسّسات في أسمى تجلّياتها يستلزم منّا الصّراحة مع ذواتنا دون محاباة أحد، ذلك أنّ الذي سيكتوي بالنّتائج ليس إلاّ نحن، والذي سيحمل أتعابه وماضيه كصخرة “سيزيف” ليس غيرنا –طبعا- ممّن ينتجون التّقارير بين الفينة والأخرى، يبتزّوننا بها متى شاؤوا، ويجاملوننا بها متى أرادوا.

على كلّ، تبقى كسرة الخبز لدى المغربيّ جزءا لا يتجزّأ من الوجود، فإذا مسّت أحسّ بشيء ما غير عادي قد داهم حياته، ويحسب ل”محمّد شكري” أنّه ردّد غير ما مرّة:”متى سيتوقّف البحث عن الخبز؟”.

كانت أذنا البصري سبّاقة إلى تلقّف العبارة من فوهة القلم إلى فوهة بندقية عتيقة ب”درب أولاد غلف”، فاخترع لضحايا 1981 مصطلح: “شهداء كوميرا”، وهو الذي سيلازمهم في صفحات التّاريخ الأسود، ويغلّ أقدام المغرب وإن يسيرا، لورش المصالحة الذي فتحه بشجاعة محتشمة مطلع الألفية الحالية، وحين غادرنا نحو دار القرار،  ترك وراءه مصطلحا نحته باقتدار ، مخلّفا للأجيال من بعده إرثا يجب عليهم أن يستفيدوا منه، ويستخلصوا منه العبر حتّى لا يقعوا فريسة المستقبل.

وربّما صار رجل السّلطة –صاحبنا- محلّلا فاشلا، ومجتهدا لم يؤت الوسائل،  اعترى بصره غشاوة قراءة الأحداث، فابتعث من داخله شيئا من “البصري” المؤلم، ليخاطب “مّي فتيحة” بعنجهية “القائد” الذي يحيي ويميت، والذي يمسك بأرزاق العباد على حافة “كرّوسة” مهترئة، سيندم على تلك اللّحظة التي مسّ طرفها إن كان في ضميره بقيّة إنسان، وستبقى ملامحه النّفسية كصورة مسخ في غابر الأزمان.

قيل –والعهدة عليهم-، إنّ ما ما أقدمت عليه “مّي فتيحة” يشبه كثيرا نمط الانتحار “الإيثاري” عند “إميل دوركهايم”، ذلك أنّها أجبرت معنويا على حرق نفسها بعد ما نالها من “الحكرة”، ولو أنّ السّياق المعرفي والتّاريخي لهذا النّوع يختلف قليلا عن هذا الحادث.

وقيل أيضا، بل ينتمي إلى جنس “الانتحار القدري”، لأنّها لم تستجد به إلاّ حين أُغلق أمامها باب العدل الدّنيوي، وكُبح جماح فكرها قهريّا.

وقلت، إنّ نفس الإنسان توّاقة إلى العدل أينما وجد، والظّلم ليس من شيم النّفوس وإن قال “المتنبّي” النّقيض في لحظة غضب، وللصّبر حدود كما ردّدت أم كلثوم على منصّات كثيرة وفي يدها وشاح أبيض اللّون، و”مّي فتيحة” كأنّها مازجت بين الإثنين فضحّت بالجسد أمام بناية إدارية على نهج “البوعزيزي” لقوّة الصّورة في عصر قنوات النّفط والبترول، ونقلت العدسات ذلك ليعيشه العالم المنغمس  في الدّماء فما عاد يحسّ…، وحيثما وجد العدل وجد الخير والرّخاء، وحيثما حلّ الظّلم حلّ الخراب، ألم يقلها ابن خلدون مدوّية: “والظّلم مؤذن بخراب البنيان وفساد النّوع”؟ !.

بقلم أحمد إدصالح 

 

 

 







تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.