الجمعة 19 أبريل 2024| آخر تحديث 3:00 11/09



نداء الحسن : أسطورة أغنية

نداء الحسن : أسطورة أغنية

choubbou_979236601قد لا نبالغ إذا اعتبرنا “نداء الحسن ” إحدى الأعمال الغنائية الكبرى التي بصمت تاريخ الأغنية المغربية خلال القرن العشرين ، فالزخم الذي حظي به العمل تجاوز حدث المسيرة الخضراء ، لتدخل الأغنية خانة الكلاسيكيات الخالدة

، وَيعجب المتتبع الموسيقي حقا لتواري كثير من الأعمال العاطفية الرائعة إلى ظل الاستماع مقابل الحضور المتجدد لأغنية اعتبرت في بداياتها أغنية مناسبات ألفت لحدث وطني ، فمالذي صنع أسطورة العمل الذي يفاجئنا إشعاعه كل يوم من خلال أداءته الجديدة من الهواة والمحترفين على السواء ومن توزيعاته الموسيقية والاوركسترالية الحديثة ومن إعاداته في مختلف أنحاء العالم .

ولدت الأغنية التي اشتهرت عند المغاربة بمطلعها ” صوت الحسن ينادي ” نظما ليلة 16 أكتوبر 1975 كما يحكي مؤلفها الزجال فتح الله المغاري ، فالرجل استمع كغيره من المغاربة لخطاب الملك الحسن الثاني بمراكش الذي أعلن من خلاله عن تنظيم المسيرة الخضراء ، لم يستغرق النظم حسب مؤلفه أكثر من عشرين دقيقة حتى يكتمل ، التقط الزجال معجم الخطاب الملكي وكلماته الدلالية الرئيسة ذات الصلة بالمسيرة المرتقبة ، فصاغها في قصيدته الزجلية الخالدة ، ويعتبر كثيرون أن فتح الله المغاري حالفه التوفيق منذ المطلع حين ابتدأه بصورة شعرية بليغة جعلت صوت الحسن مجرد مناد بلسان الصحراء ، ثم انساب النظم ملخصا نظرة الحسن الثاني للمسيرة .

بعدها أخذ النظم الملحن عبد الله عصامي صديق كاتب الكلمات والذي شكل معه ثنائيا فنيا ، وكانت المفاجأة أن اللحن – كما الكلمات – لم يأخذ من الملحن وقتا يذكر، فهرع هذا الأخير من بيت المغاري إلى مسكنه لتحويل اللحن إلى نوتة ومن بيته توجه إلى المايسترو عبد السلام خشان مدير الجوق الملكي لتبتدئ البروفات ، ويُحكي أن المدة بين كتابة الكلمات وصياغة اللحن والتدريب على الأغنية لم تستغرق إلا مدة قياسية لم تتجاوز 24 ساعة ، فكانت الأغنية عمليا جاهزة للأداء ليلة 17 أكتوبر1975 ، لكن لكي تسجل الأغنية وتذاع كان لابد من تأخذ تأشيرة الموسيقار أحمد البيضاوي رئيس قسم الموسيقى بالإذاعة الوطنية الذي تردد برهة بداعي عدم توصله بأمر من الملك الحسن الثاني أو من وزير الأنباء بابتداء تسجيل أعمال التعبئة للمسيرة الخضراء ، لكنه أعطى الضوء الأخضر في الأخير لتسجيل القطعة.

كانت السرعة التي تحرك بها مؤلف الأغنية وملحنها كبيرة ، لدرجه أنه أُسقط في أيدي باقي مبدعي الأغنية المغربية العصرية ، وصار من الصعب تجاوز هذا العمل المكتمل شعرا ولحنا وتوزيعا وأداء ، ودليلي على ذلك أن الأغنية الوحيدة التي طاولت نداء الحسن حينها كانت ” العيون عيني ” ، وهي على أية حال من جنس آخر هو غناء المجموعات الشعبية .

قبيل انطلاق المسيرة صدرت الأوامر بتصوير النشيد للتلفزيون ، أعد أستوديو التلمساني بالتلفزة وزينت خلفيته بلوحة تشكيلية ضخمة تجسد معاني المسيرة الخضراء ، تهافت كبار مطربي المغرب على المشاركة في هذه الملحمة ، فآنذاك لم تعم البلوى بمدراء الأعمال كاليوم ، ولم يكن المطرب يشترط أن يكون شمس والباقي كواكب ، وحتى الهندام لم يُتشدد فيه فقد حضر الجميع بلباسه المختار من القفطان والسموكيينغ إلى القيمص الرياضي ، كان في الصف الأول من اليمين إلى اليسار ملحن العمل عبد الله عصامي والموسيقار إسماعيل أحمد والمطرب أحمد الغرباوي وعندليب المغرب محمد الحياني والسيدة بهيجة إدريس ، وفي الخلف كان هنالك محمود الإدريسي وعبد المنعم الجامعي ومحمد علي وعماد عبد الكبير ومحمد بلبشير والجيلالي زراد بالإضافة إلى مجموعة من كورال فرقة الإذاعة ، أما العزف فكان للجوق الملكي بقيادة المايسترو عبد السلام خشان ، والذي يجهله كثيرون أن التسجيل التلفزيوني نفذ بطريقة البلاي باك ، بمعنى أن الأصل في التسجيل كان الشريط الإذاعي الأول ، أما المجموعة التي صورت الأغنية فاكتفت بالترديد الذي لم يسجل صوتا وإنما وثق صورة .

بعد مرور أربعين سنة لازالت الأسئلة تتناسل حول سر نجاح هذا العمل ، فمما أثيرعن العمل هو عن الجانب الذي أنجح العمل ، هل هي الكلمات أم اللحن ؟

لا يختلف اثنان في أن الزجال فتح الله المغاري أبدع بكلمات بسيطة تندرج فيما يصطلح عليه بالسهل الممتنع ، كما لا يمكن أن يختلفا في التناغم الشديد في الأغنية بين النظم والميلوديا ، لكن المتخصصين يرون بأن لحن عبد الله عصامي هو الذي حقق الفرق لأنه كثيرا ما يكون هنالك نظم مبدع ، لكنه لا يمكنه أن ينجح في الغناء إذا لم يُصغ الصياغة اللحنية المتماسكة التي تجسد موسيقيا روح وجو الكلمات ، فاللحن يبتدىء بمقدمة موسيقية رصينة هادئة تميل إلى الحزن ثم سرعان ما يتسارع اللحن لينتقل من السكون إلى الحيوية مع دخول المجموعة في تريد التكبير ” الله أكبر ” ، بعدها يستقر اللحن في هذا المنحى ، ويأتي كوبليه صوت الحسن ينادي بلسانك يا صحراء ليحسس المستمع بأنه أمام عمل وطني من خلال حضور كورال رجالي يجيب عنه كورال نسائي بخلفية موسيقية راقصة ، ثم سرعان ما يحقق عبد الله عصامي نقلة مبدعة من خلال كوبليه مسيرة أمة وشعب بولادو بناتو حيث يدخل اللحن في التطريب الذي تستطيبه الأذان الشرقية ، ثم يبلغ اللحن دروة التطريب إبتداء من كوبليه حاملين كتاب الله وطريقنا مستقيم حيث يوظف الملحن الفلكلور المغربي الذي تسنده الآلات النحاسية النفخية والإيقاع المكثف ، كان اللحن مسبوكا بشكل بديع وبعيد عن الأجواء اللحنية للأغاني الوطنية التي تعتمد المارش العسكري وضجيج الآلات النفخية وكثافة التوزيع الموسيقي ، بحيث لم يبتعد اللحن كثيرا في ميلوديته عن أجواء الغناء العاطفي .

ومما حقق ميزة العمل أنه لم ينسب لمؤد واحد ، وإنما اعتمد غناء المجموعة ، مما جعله أغنية للمغاربة كلهم ، وهو ما شجع كثير من المحترفين بإعادة غنائه ضمن مجموعات كنعيمة سميح ولطيفة رأفت و حياة الإدريسي وغيرهم دون حرج ، بينما التقليد المتبع في الغناء الاحترافي ظل إلى اليوم هو تجنب إعادة القطع من الغناء المنفرد درءا للمقارنات بين المؤديين ، ثم اكتسب النشيد الطابع الرسمي حين صار عمليا النشيد الرسمي للمسيرة الخضراء ، وسُجل لمؤلفه الزجال فتح الله المغاري تأثيره في معجم المسيرة الخضراء ، فقد إقتبس بعده الإعلام الرسمي

معاني كثيرة من نظمه منها وصف المسيرة الخضراء بمعجزة الزمان .

بقي جانب لابأس من التطرق إليه هو عن علاقة الحسن الثاني بهذا النشيد ، يحكي فتح الله المغاري بأن ” الحسن الثاني رحمه الله كان يحب هذه الأغنية كثيرا ، ويبكي عندما يسمعها ، كنا نغنيها في القصر الملكي ، فيختفي الملك الراحل ويبكي ” ، وكلام مؤلف الأغنية قد لاينطوي عن مبالغة ، فقد أتيحت لنا نحن المغاربة أن نعاين التفاعل المباشر للملك الحسن الثاني مع الأغنية في إفتتاح دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط بالدار البيضاء في سنة 1983 ، ففي إحدى فقرات حفل الافتتاح كانت أغنية نداء الحسن ترافق إحدى الرقصات الفلكلورية المغربية ، وإتجهت الكاميرا للحسن الثاني الذي وقف مزهوا يلوح بيديه وفي عينيه بريق حاد كالذي يغالب دمعه حتى لا ينزل .

النجاح الساحق للأغنية وإرتباطها بالمسيرة الخضراء وبالأحداث الوطنية الكبرى اللاحقة ، جعلت البعض يتساءل عما إذا لم يفكر الحسن الثاني في أن يتخذها نشيدا وطنيا رسميا للمغرب تماما كما فعل صديقه الحميم محمد أنور السادات حين جعل نشيد ” بلادي بلادي” أحد الأعمال الوطنية لسيد درويش في أعقاب ثورة 1919 نشيدا وطنيا لمصر ، شخصيا لا أستبعد أن يكون هذا الخاطر قد ورد في ذهن الحسن الثاني ، لكن الرجل بذكائه المعهود وعلى كل إرتباطه الوجداني بالمسيرة الذي هو مبدعها ، لم يشأ أن يربط النشيد الوطني للمملكة بحدث واحد مهما علا شأنه .

المهدي شبو







تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.