الجمعة 19 أبريل 2024| آخر تحديث 5:24 03/01



سِيــدي وَافُــــودْ أُوكـــْرَّامْ

مقالات الراي

عَاد إبراهيم من سفره الطويل، سفرٌ عاش فيه غربة دامت 20 سنة في بلد المهجر، عاش منفيا بدون أوراق الإقامة، بلغتهم كان مهاجرا سريا. فضل العيش في الغربة عازباً، على زواجٍ يمنح له إقامة بدون حرية. استفاد من نجاح حزب معارض في الانتخابات شكل أغلبية حكومية، غيرت بعض من قوانين الهجرة وأعطت حقوقا للأجانب. هكذا، أصبح ابراهيم مواطنا بحقوقه الكاملة. ويحقق حلمه الأول والأخير، العودة إلى الموطن، إلى المسقط.
وجد ابراهيم تغيرات كثيرة طرأت على الدوار، ارتفع عدد المنازل المبنية بالاسمنت والياجور. أعمدة وأسلاك الكهرباء تخترق الأرجاء، صحون بيضاء مبثوثة على سطوح المنازل. كل الحقول التي كان الناس يحرثون فيها القمح والشعير أصبحت مغروسة بأكناري. صومعة المسجد هي الأخرى تم تجديدها على شاكلة مساجد المدن عالية تخترق السماء. يلاحظ ابراهيم ويقارن حالة الدوار قبل 20 سنة، بالحالة التي يعيشها الآن.
تأثر ابراهيم واشتد يأسه، لأنه لم يجد جدته “فاطْنا” التي توفيت قبل سنوات، يتذكر حبه وارتباطه الشديد بجدته التي كانت تبادله نفس المحبة والمودة. يتذكر ذكريات الطفولة ونصائح الجدة، وكيف كانت تحكي له قصص الحيوانات وتاريخ الأسرة والقبيلة وتقلبات الزمن…
كانت الجدة “فاطنا” تحرس على إرسال ديك اسود إلى ضريح غير بعيد عن الدوار، يدعى “سِيدي وَافُودْ أُكْرَّامْ”، يتم ذبحه هناك كصدقة للتقرب والتبرك بهذا الولي الصالح. وهو مزارٌ يحج إليه الكثير من الناس وخاصة النساء. ومعروف ب”استشفاء” من بعض الأمراض، حيث يأتي إليه مرضى من مناطق مختلفة، ويقال أن من بات ثلاث ليالي داخل الضريح يتم استشفائه كليا. ويعتبر بذلك “سيدي وَافُودْ أُوكْرَّرامْ”، من بين أهم المزارات المشهورة في المنطقة، تنسج حوله أساطير كثيرة ومطولة حول صلاحه وبركاته وجهاده المقدس، وتواترت عنه عجائب الكرامات. ويقال عنه أنه كان تلميذا “لأبي العباس السبْتي”. والله أعلم.
ووفاءً لروح جدته الطاهرة، عمد ابراهيم على شراء ديك اسود اللون، ليتم ذبحه في الضريح والدعاء لجدته كما كان يفعل أيام صباه. لكن تفاجأ بموقف عنيف من أسرته أولاً ثم من جيرانه ثانيا. الموقف هو بمثابة إجماع على أن ما سيقوم به ابراهيم هو “شرك بالله”، ولا علاقة له بالدين. الكل يتبرأ مما سيقوم به هذا المهاجر العائد الذي اغترب عقدين من الزمن في بلاد “الكفر”. شرح ابراهيم للجميع على أن زيارة الضريح هو طقس متوارث لدى الأسلاف، ولا يتعارض ذلك مع الدين على اعتبار أن الناس يصلون داخل الضريح ويقرأون الدعوات، وأن جدته وكل النساء والشيوخ كانوا مؤمنون بالله وثقاة، ولكن كانوا دائما في ارتباط شديد بهذه الأضرحة وينظمون بها مواسما كبرى…. وصل حدة النقاش إلى المسجد وخطب الإمام يوم الجمعة في الناس حول الموضوع نفسه، وعزز الموقف الرافض لمثل تلك الأفعال ودعا الجميع إلى مناهضة كل ما من شانه التشويش على تعاليم الدين.
بحث ابراهيم عن أسباب هذا التحول الجدري الذي طرأ على محيطه، وغير ذهنية الناس. دخل في نقاشات مع البسطاء والشباب والنساء. أغلبية هؤلاء لم يلجوا قط المدرسة ولا يمتلكون عدة معرفية للنقد والتحليل لكي يتخذوا موقفا في ذلك الحجم، وينبذون عادات وطقوس أجدادهم التي توارثوها قرونا من الزمن. ماذا اكتشف ابراهيم؟
استغرب من الحجج ومن الطريقة التي يدافع بها هؤلاء عن موقفهم، يذكرون أسماء “الشيوخ” وبرامجهم التي يتحدثون فيها عن مثل هذه المواضيع. إلى درجة أن بعض المتحمسين يقلدون هؤلاء الشيوخ والدعاة في طريقة إلقاء الخطب الدينية والوعظية. انتشر تأثير هذه القنوات الدينية في أوساط الأفراد، وأثرت في حيوات الناس، بذريعة تطبيق الدين الصحيح والنقي. وبفعل قوة الخطاب الديني وطريقة تسويقه إعلاميا عبر قنوات فضائية حديثة وعصرية، تبدل المجتمع ولبس لباس ما يستهلكه من القيم الجديدة والسلوكات التي يتم نشرها وبثها. وفي المجتمعات البسيطة التقليدية فكل ما يبث في التلفزيون فهو حقيقة. وكل من يتحدث عن الدين فهو أحق.
بَلْبَلَ فكر ابراهيم وتشتَّت ذهنه، لكن يبدو هادئا متماسكا. بحكم طوال مدة إقامته في الخارج وانعدام أوقات الفراغ لديه، فلم يتعرف عن قرب على هذه الخطابات التي تروج فضائيا وتكتسح الشعوب التي تراكمت عليها الشروخ المؤلمة. وكرس كل وقته للوقوف على حيثيات ذلك وأسرار هذا الاكتساح الخطير. وذات ليلة زاره في منزله صديق قديم، أستاذ في التاريخ يدرس في إحدى الثانويات القريبة. كشف له ابراهيم عن ألمه الدفين وجرحه العميق. وأن الناس ابتلوا بهذه الصحون البيضاء وبدلت سلوكاتهم ومسخت ثقافتهم وهويتهم.
شرح الأستاذ لزميله كل تفاصيل ذلك الفكر الذي يدعى “الوهابية”، تنشره قنوات عديدة تمولها دول بترولية، وهدفها هو اجتياح العالم عن طريق إصلاح الدين، وأعطى الأستاذ أمثلة كثيرة، ونماذج عديدة مثيلة حدثت في تاريخ المغرب وكانت سببا في اندلاع فتن
كثيرة، وتوفق علماء أهل المغرب في ذلك الزمان في دحض تلك الأفكار المتزمتة، التي تضرب وتهدم الخصوصية المغربية. مثل ما حدث في عهد سلطان يدعى “مولاي سليمان” وكان ذلك أول عهد لهذه الوهابية في بلاد المغرب.
فطن ابراهيم للخدعة، وذهب بالديك الأسود إلى الضريح، وقام بكل تفاصيل الطقس والعُرف، وتأسف عن الحالة التي وجد فيها الضريح، حيث الخراب ينهش الجدران، وبعض من علامات الهدم بادية عليها. والأبواب مكسورة. وتبين له أن الضريح أمسى بناية مهجورة. وبات ملجأ للبُوم.
وأخذ العزم واتصل بعديد من الأصدقاء، وأصلح ما يمكن إصلاحه، وأرجع الحيوية إلى المزار. ونظم موسما كبيرا في التاريخ الذي كان ينظم فيه نساء الدواوير المجاورة، “المَعْرُوفْ”. وأضحى هذا الموسم تحت اسم “أنْمُوكارا نْسيدي وَافُودْ أُوكْرَّامْ” محجا سنويا عظيما يلتقي فيه الجمع على فعل الخير، ويتم الدعاء فيه للأسلاف، وللشيوخ والصلحاء والأولياء.
والكرامةُ لأهلِ اليَقين.

 

بقلم عبد الله بوشطارت







تعليقات

  • من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.