الجمعة 19 أبريل 2024| آخر تحديث 11:40 02/09



الوفاء للقيم خط الكبار

الوفاء للقيم خط الكبار

unnamed

من المعاني الجليلة، المفروض علينا اعتناقها بقوة، الصدق في المواقف و الثبات على المبدأ و الوفاء للخط و القيم.. و هي معان لا يحملها إلا الكبار عبر التاريخ بدءا بالأنبياء و المرسلين و انتهاءا بمن ينهل من ذات المعين من رجالات العمل الوطني و الإسلامي الصادقين..
هو خط، إذن، يعكس إنسانية الإنسان و كونه قبسا من روح الله؛ إذ يترفع المرء عن المصالح الضيقة العاجلة و المغانم القريبة و يتيقن من الثمار اليانعة و النتائج المشرقة لخط الصدق و مسار الوفاء للقيم.
إنه نموذج، يوجه ضربات قاصمة و ردودا قوية لنموذج يراد له الانتشار بين البنين و البنات؛ نموذج الذل، نموذج يبيح للإنسان خذلان القيم و الجرأة على الكذب و بيع الضمير في سبيل نجاح زائف..
إنه برهان ساطع، يُؤكد أن لا خوف من شيء في الدنيا قبل الآخرة، إذا ثبت الإنسان على الحق و كان ديدنه الصدق. لا خوف من المستقبل و إن لاح برهة مظلما، فالمستقبل، في نهاية المطاف، للقابضين على الجبر و الثابتين على الخط و الأوفياء للقيم؛ فالحياة خلقها من اسمه “الحق” و لا هناء فيها – نفسيا على الأقل – إلا لمن عانق الصدق و الحق..
هنا، سنعرض  لموقفين من مواقف رمزين وطنيين كبيرين في شبابهما المبكر يعكسان بقوة ما ذهبنا إليه من كون الصدق و الوفاء للقيم خط كله خير.

1 . موقف التلميذ محمد عابد الجابري:

الدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله، من رجالات هذا الوطن الكبار على الأقل في الفكر، حريٌ بنا – نحن الطلبة و التلاميذ – الاطلاع على سيرته ومسيرته عسانا نقتفي آثاره في بعض المواقف و المشاهد.
هو من مواليد أواخر سنة 1935 بمدينة فجيج، تنقل بين عدة مناهل للتعلم؛ من المسيد إلى مدرسة في فجيج إلى مدرسة وطنية “النهضة المحمدية” في ذات المدينة إلى مدرسة إعدادية في وجدة ثم استقر به الحال في مدرسة وطنية بالدار البيضاء. في سنة 1953 كان الصدام قد بلغ نقطة “اللاعودة” بين الاستعمار و الإرادة الوطنية، تم خلالها نفي أساتذة المدرسة الوطنية و اضطهاد أطرها مما أدى إلى توقيف الدراسة في هذه المدرسة. فاضطر التلميذ محمد عابد للاشتغال مع عمه الخياط. لكن هذا الشاب كانت نفسه تطفح تحديا للواقع.
“فكان القرار الحاسم الذي اتخذه صاحبنا هو ترك الخياطة و مواصلة الدراسة، و هكذا فما أن بدأت المدارس تفتح أبوابها في أكتوبر 1953 حتى قصد صاحبنا مدير “الثانوية الإسلامية” و هي الثانوية الرسمية التابعة للتعليم الفرنسي بالمغرب و الخاصة بالمغاربة المسلمين وحدهم – بالدار البيضاء – بينما كانت “ثانوية اليوطي”  مخصصة أساسا لأبناء الجالية الفرنسية.
استقبل هذا المدير الفرنسي صاحبنا ذات صباح بوجه بشوش و أجرى معه محادثة بالفرنسية كان ينوي اختبار مستواه فيها، و ذلك بعد أن اطلع على دفتره المدرسي كأحد المتفوقين في اختبارات السنة الخامسة ( الثانية إعدادي ) و في نهاية المقابلة قال المدير لصاحبنا: ” أنا أتفهم وضعيتك و لا أرى مانعا في التحاقك بالسنة الرابعة عندنا ( الثالثة إعدادي ) و لكن لا بد من أستشير الأساتذة. عد عندي بعد أيام”. و بعد أسبوع عاد صاحبنا يطلب مقابلة المدير فاستقبله لبرهة من الزمن قائلا: “لم أتمكن بعد من أخذ رأي الأساتذة، عد بعد أيام”. و بعد أيام عاد صاحبنا ليتلقى نفس الجواب من المدير.
ثم إن صاحبنا التقى صدفة بتلميذ كان قد التحق بالثانوية المذكورة، في الفترة نفسها، قادما من مدرسة ثانوية رسمية من مدينة أخرى، و حكى له مماطلة المدير و تسويفه، فما كان من ذلك التلميذ إلا أن ابتسم ابتسامة من يخاطب شخصا أخطأ الطريق و قال له: “إنك تتعب نفسك. اذهب و اشتر ديكين روميين من السوق المركزي (سوق خاص بالجالية الفرنسية) و احملهما إلى دار المدير و ادفعهما للحارس مع ورقة فيها اسمك، ثم عد إلى المدير بعد ذلك بيوم أو يومين و معك أدواتك المدرسية”. ثم أضاف التلميذ: “ذلك ما فعلته أنا، و فعله من نصحني بذلك و أنا أنصحك بدوري”.
“ديكين روميين”… رشوة.. إلى مدير فرنسي !
أحس صاحبنا بأصوات الرفض تنبعث فيه من كل جانب: من قلبه و عقله.. و أبيه، من الحاج محمد، من السي بوشتى.. من كل ما يمثل في كيانه الكرامة و الحق و الوطنية. و بدأ يحس بصراع في داخله و بنوع من القلق يدب في نفسه فقرر الحسم في الأمر حسما تاما و نهائيا..
و هكذا صرف النظر عن الالتحاق بتلك المدرسة و عقد العزم على أن يدرس بنفسه برنامج الشهادة الثانوية (الإعدادية) و يهيئ نفسه بنفسه للتقدم إلى امتحاناتها كطالب حر.” ( محمد عابد الجابري. حفريات في الذاكرة. ص:181-182-183).
إن هذه القصة تستحق حقا  ذيوع الصيت خصوصا في أوساط الأجيال الصاعدة ( التلاميذ و الطلبة ) خاصة و أن التلميذ الذي عاشها هو فيما بعد المفكر الكبير محمد عابد الجابري الذي أطبقت شهرته في الآفاق. إنها تذكرة بالأصوات المطلوبة: رفض الظلم و الرشوة و الفساد.. إنها قصة تؤكد مرة أخرى أنه لا خوف من الوفاء للقيم.
ذوو الرؤية القصيرة سيهتفون للشاب محمد عابد؛ ما المشكلة، يا أخي، “ديكين روميين” فقط ! و تعود إلى مقاعد الدراسة و تؤمن مستقبلك. لكن الشاب أجاب عبر سلوكه: بئس المصلحة إن كانت خيانة للقيم و المبادئ ! بئس النجاح إن كان على حساب الصدق في الخط و الوجهة !
أنا لأحد من التلاميذ و الطلبة أن يقول بعد قراءة هذا المشهد: لا مفر من استعمال وسائل الغش للنجاح و التفوق بدعوى شيوع ظاهرة الغش في أوساط جل المتعلمين. أنا لهم أن يقولوا هذا، و قد رأوا الشاب محمدا عابد الجابري انقطعت به السبل و مستقبله الدراسي كله مهدد، لكنه صمد و احتسب و وفى بالعهد و ثبت على القيم..
إن الرسالة واضحة، هنا، إن هذا الكون يسير بمشيئة الله جل علاه، يسير بمن اسمه “الحق”. و بالتالي لا خوف عليك، إن كنت صاحب حق و ثابتا على عهد و مستمرا على خط الصدق و رفض الرشوة و كل ألوان الفساد.. الخوف – كل الخوف – على مسارك، إن خذلت القيم و أصررت على خذلانها و جانَبتَ الصدق في المواقف التي وقفت عليها و اتخذت الغش مطية لتحقيق نجاحاتك.
2. موقف التلميذ المهدي المنجرة:

رجل، غادرنا في صمت في يونيو الماضي، صدق في الموقف و ثبت على الخط و انحاز للوطن و كتب “قيمة القيم”، هو الدكتور المهدي المنجرة رحمه الله.
ولد المهدي بمدينة الرباط سنة 1933، تابع دراسته بالمسيد و مدرسة غورو. بعد الحصول على الشهادة الابتدائية التحق بليسي “ليوطي”، و المثير أنه كان يحصل كل سنة على التوبيخ، و هو ما دفع بهذه المؤسسة إلى طرده بحيث كان من غير الممكن نهائيا أن يعود إلى هذا الليسي، مما دفع بوالده إلى اتخاذ القرار بأن يسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية. سبب غضب مؤسسة “ليوطي” يتعلق بتوبيخات سياسية في الحقيقة، ذلك أن المهدي كان يحصل دائما على نقط دون المستوى في مادتي الفرنسية و التاريخ، لا لضعفه اللغوي و التعبيري، بل لأن أحد أساتذة اللغة الفرنسية كان يشترط للحصول على نقطة جيدة الإشادة بالعلاقات الفرنسية-المغربية.
يقول المهدي معلقا على هذه الذكرى: “إنني حين أتذكر مثل هذه الوقائع أشعر باعتزاز عميق، إذ على المرء ألا يكبت انفعالاته، و ألا يستسلم لقبول الأوضاع كما هي، و عليه أن يحرص على معانقة التساؤل المستمر”.( محمد بهراجي و حسن نجمي، المهدي المنجرة: مسار فكر، ص: 16).
إنه  الموقف الكبير المتعلق برفض بيع الضمير و تزييف التاريخ من طرف التلميذ المهدي، كلفه ذلك الطرد من مؤسسة كبيرة في وقتها “ليسي ليوطي”. لكن نزاهة الضمير أولى و الوفاء للذاكرة أقوى عند التلميذ المهدي. إن الاستعمار استغلال للعمران و تحطيم للإنسان؛ فما الفائدة من الكذب و الإشادة بالعلاقات المغربية-الفرنسية؟  هكذا ينطق الوعي المبكر للشاب المهدي.
إن التلميذ المهدي ضحى بالنقط في سبيل الفكرة الوطنية التي يعتنقها، في سبيل الصدق. فماذا وقع له بعدئذ ؟ هل الطرد من ليسي “ليوطي” معناه الفشل، معناه أن التاريخ انتهى؟
كلا ! فالتلميذ المهدي يسر له الله سبحانه و تعالى الذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال دراسته سنة 1948  حيث ألقى هناك عدة عروض أمام زملائه الأمريكيين حول عدة قضايا من بينها عرض حول “التاريخ الأمريكي” يُلفت فيه النظر إلى ظاهرة الامبريالية. فالقضية التي يحملها على عاتقه؛ الصدق مع الوطن و معاداة الاستعمار و الامبريالية و التي بسببها طُرد من “ليوطي” لم يفارقها حتى في أمريكا. و بعد ذلك صار البروفيسور المهدي من كبار المفكرين المعادين للامبريالية و الاستعمار الجديد في المؤسسات الدولية (اليونسكو التي اشتغل بها).
إن هذه أمثلة فقط. أما مواقف رجالات هذا الوطن الكبار منذ مرحلتهم التلمذية و الطلابية فهي منارات بحق للأجيال الصاعدة (التلاميذ و الطلبة)، وجب تسليط الضوء عليها لنستفيد منها و نقتفي أثرها. فهي تؤشر على أن الصدق في المواقف و الثبات على المبدأ و الوفاء للقيم وجهة صحيحة تحمل الإنسان دائما إلى بر الأمان.

 

أيوب بوغضن







تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.