الجمعة 29 مارس 2024| آخر تحديث 5:12 02/09



أَفْضَلْ مشروع في سيدي افني

1812015-66797

ابراهيم شاب في العقد الثاني من العمر. ولد بمدينة افني من أسرة نازحة من إحدى الدواوير المنعزلة في قبيلة امستيتن، والده توفي قبل سنوات بسبب مرض ألزمه الفراش شهورا. كان والد ابراهيم مقاوما شرسا في صفوف جيش التحرير، وبعد حل هذا الأخير، وعودة افني إلى حوزة الوطن، انظم إلى صفوف القوات المسلحة؛ حيث شارك في معارك شديدة في الصحراء، كأمْكَاَلاَ والدْشِيرة وأبْطٍّيح. وفي هذه الأخيرة أصيب بجروح بليغة في الرأس، ووضع أمام أمرين إما أن ينتقل إلى الرباط العاصمة ويشتغل في إحدى الإدارات التابعة للجيش، أو مغادرة صفوفه. اختار الاختيار الثاني، وخرج بعجز طبي، على أن يتقاضى أجرا ضئيلا خلال ما تبقى من حياته.
ابراهيم بعد وفاة والده، اضطر إلى مواجهة الواقع ومساندة الأم والعائلة المتشكلة من سبعة أفراد، غادر الدراسة في السنة الأخيرة من الباكالوريا، واقتحم عالم الشغل. يشتغل مياوما وحمالا وجرب جميع المهن، ابتدأ بالبناء والأشغال الموازية له كالصباغة والزليج، اشتغل في الحمام والمخبزات، الأسواق والميناء وغيرها من الفرص المحدودة التي توفرها مدينة صغيرة، معزولة، مهمشة وهادئة كمدينة افني. لا صناعة فيها ولا وظائف ولا رواج يحمس على الاستثمار.
كباقي الشباب في مثل عمر ابراهيم بمدينة افني، جرب الهجرة السرية ثلاث مرات عبر قوارب الموت نحو الأرخبيل الكناري، كلها محاولات انتهت بالفشل. عكس أبيه الذي قاوم ضد الإسبان لطردهم من البلاد، اضطر هو أن يركب الأمواج سرا نحوهم لتحقيق مستقبل منشود في زمن الاستقلال . وبعد تلاشي فكرة “الحْريكْ” في ذهنية ابراهيم، اقتنع بالبقاء في البلاد، يشتغل مرة في البناء ومرة في الميناء حسب الظروف والفصول.
فصل الصيف يشكل فرصة كبيرة بالنسبة لإبراهيم، حيث يُعتبر الموسم الوحيد الذي تنتعش فيه المدينة وتشهد رواجا اقتصاديا مهما، في الصباح يشتغل في الميناء وفي المساء يعمل في مقهى متخصص في طهي الأسماك وسط المدينة. قرر إبراهيم  أن يشتغل بهذه الوثيرة طوال أيام الصيف، حيث يخرج في الصباح الباكر إلى المرسى ولا يعود إلى البيت إلا في وقت متأخر من الليل. هكذا ألغى كل أيام الترفيه والتخييم التي ألف أن يقضيها مع أصدقائه في بعض الشواطئ المجاورة لمدينة افني خلال شهر غشت من كل سنة. وركز كل اهتمامه على العمل، واستطاع ربط علاقات صداقة مع بعض البحارة، الذين أسندوه مهمة بيع الأسماك التي يصطادونها في سوق الدلالة داخل الميناء، على أن ينال قسطا من الأرباح.
خفة ابراهيم وسلوكه المؤدب وملامح اليتم البادية على وجهه، جعلته يكسب احترام المتعاملين معه في الميناء وكذلك الزبناء في المقهى. أمور كانت تحفزه لبذل المزيد من المجهود خاصة وأنه تحقق هدفه الوحيد الذي هو كسب المال. بهذا المنوال مر صيف ابراهيم، واستطاع أن يجمع مبلغا ماليا مهما، لم يصل إلى ما كان سطره في البداية، لكن شكل بالنسبة إليه مبلغا محترما. وذلك كان مطمحه الوحيد؛ توفير قدر من المال لخلق مشروع يخرجه من تلك الدوامة، دوامة البطالة والمياومة في عدة حرف بدون مهنة محددة ولا مستقبل مضمون. هكذا كان يفكر في كل لحظة، انجاز مشروع صغير يبقيه بين أهله في مدينته، بقرب من أصدقائه. لكن يبدو أنه وصل إلى مربط الفرس. وقف في مفترق الطرق، ووجد سؤال “لينين” أمامه؛ ما العمل؟
هيمن السؤال على تفكير ابراهيم، يعيد طرحه مرات عديدة، لا يرغب في فتح النقاش بشكل مباشر مع أحد، وإنما بطرق خاصة عن طريق معارفه، يتحدث في الموضوع دون الإفصاح عن كل التفاصيل، يسأل ويتكلم بتحفظ كبير. يحاول الوصول إلى إجابة محددة عن سؤال” ما العمل” دون إثارة انتباه الآخرين. لكن لا يصل دائما إلى اقتراحات ممكنة وواقعية للمشروع المفترض.
ذات مساء، قبل غروب الشمس، خرج ابراهيم من بيته قاصدا مكانا يجلس فيه بعض الشيوخ وكبار السن من المتقاعدين، غير بعيد من مسجد “أبَرَاغْ”، ووجد الشخص الذي كان يبحث عنه. هو “با المحجوب” معروف بحكمته ومشهور بخبرته، كان موظفا إداريا أيام حكم الاسبان في افني وشارك في الحروب الأهلية، وبعد الاستقلال سافر إلى مدريد واشتغل في الترجمة بحكم إتقانه اللغة الاسبانية، ثم عاد  قبل سنوات إلى ذويه واستقر بمنزله في افني.
احتفظ بعلاقات كثيرة مع شخصيات مهمة في اسبانيا وغيرها من الدول الأوربية، “با المحجوب” يعرف كل تفاصيل وخبايا مدينة افني وخريطة قبائل ايت باعمران، عاش في “أمزدُوغ” قبل أن تؤسس المدينة في سنة 1934، وشاهد تطورها في كل مراحله. تقدم إليه الشاب ابراهيم، وفاتحه في الموضوع وطلب منه الاستشارة والنصح في اقتراح مشروع صغير يستثمر فيه ما جمع من الأموال التي ضحى وكابد من أجلها.
نظر إليه “با المحجوب” بتمعن، وفكر، ثم أجابه، هكذا : ” إنني أعرف والدك رحمه الله منذ أيام جيش التحرير، ولا يمكن لي الكذب عليك، أحسن وأفضل مشروع في مدينة افني، هو أن تحزم حقيبتك الآن، في هذه اللحظة، وتذهب إلى المحطة الطرقية وتغادر المدينة، في أي اتجاه ممكن، المهم الخروج منها بسرعة، لا تبحث يا بني عن المستقبل هنا.”
افني مدينة الفناء.

 

عبد الله بوشطارت 







تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.